بداية يجب أن أشير إلى وحدة الدم والتاريخ والأرض مع إخواننا الشيعة في العالم، ولا يمكن لي ولا لغيري أن يساوم على وطنيتهم أو حقوقهم، وأرجو أن يكون تصنيف هذا المقال في إطار النقد الذاتي لأنفسنا ومجتمعاتنا، فكما سبق أن انتقدت كثيرا من النقاط ذات البعد الديني، وشرحت وجهات نظر مختلفة في كثير من مقالاتي؛ فأنا هنا أيضا أكتب بعقل ناقد لبعض الظواهر الخاصة بمجتمعاتنا، وإن كنت أتحدث عن بعض أتباع طائفة معينة فيها، والهدف الوحيد هو المشاركة في رفع الوعي والإدراك في مجتمعاتنا جميعا، كوننا شركاء في الوطن والدين والتاريخ.

كانت هناك محاولات ودعوات لمشاريع مثل "التقريب بين المذاهب" وغيرها، ولكنها كلها فشلت فشلا ذريعا لأسباب متعددة، أهمها أن ذريعة التدخل في كل مكان ستسقط، ولكن عموما فقد كانت مبنية على أساس خاطئ، فلا يمكن تجاهل الطبيعة البشرية في الخلاف، وكان الواجب أن تكون مشاريع تعايش وتفاهم وليس التقارب بمعنى التنازل كما فُهمت فيما بعد.

والحقيقة أن إيران بتدخلاتها وسياساتها الأخيرة أفشلت كثيرا من تلك المشاريع، بل خسرت حتى الشخصيات الكبيرة التي كانت تتبنى الفكرة بسبب هدم إيران لها. أعلم أن هذا الفهم خاص بي وربما أكون مخطئا، ولكن هكذا يفهمها المجتمع السني في أغلبه.

دعونا نفكر كإخوة شركاء؛ ما المشكلة وما الحل لها؟

للإجابة؛ فلن نجد مفرّا لتفسير الأحداث السياسية المتأزمة في المنطقة، الأمر الذي قد نختلف في تفسيرها أيضا! فما الأساس الذي يجب أن نتفق عليه؟

في نظري، إننا يجب أن نحاول تفسير الأحداث بعقل حر يستبعد الخلفية الطائفية له ولو على الأقل للحظات، كي يستوعب المشكلة كما هي.

كثير منا سنّة وشيعة يحاول تفسير الأحداث كونه يعدّ نفسه طرفا إما سنّيا أو شيعيّا ويفسر الأحداث بناء على هذا الأساس، سواء في الأحداث الحالية أو تسلسلها التاريخي. ولكن لماذا لا نسأل أنفسنا إلى متى سنبقى على هذه الحالة، يتقاتل متطرفون هنا وهناك نيابة عنا ويجروننا والمنطقة إلى الهاوية؟

إذا كنت تفسر الأحداث بعقل طائفي فلا تحاول لوم الآخرين تفسيرها أيضا بعقل طائفي، الأمر الذي سنستمر معه في مسلسلات القتل والحروب في المنطقة!

وعندما نرى الحالة الشيعية في المنطقة؛ فإننا نجد بوضوح ميل عدد من أبنائها للانجرار خلف السياسة الإيرانية وتبني مواقفها، والسبب الحقيقي وراء ذلك هو البعد الطائفي بلا شك، ولا أظن هذا سرّا إطلاقا، فهذا حزب الله يعدّ نفسه وكيلا للولي الفقيه وهكذا. ولكن أود أن أتساءل الآن: هل الانجرار خلف هذا الخيار هو الخيار الصحيح للشيعة العرب وللمنطقة؟

الجواب هنا يضطرنا إلى شرح الحالة الإيرانية في عمومها؛ فهي عبارة عن دولة دينية طائفية "على الأقل في نظر المجتمع السني بشبه إجماع"، تحاول أن تكون هي المركز للإسلام الشيعي في العالم "ودستورها يحوي عبارات تؤكد طائفيتها"، ولكن ليست هذه هي المشكلة وحدها؛ فإن هذه المركزية التي تُلغي حدود دول جغرافية؛ تستبطن فكرة أخرى أكثر سوءا؛ وهي أن الرجل الأول في الدولة يعدّ نفسه وليّا من أولياء الله ووكيلا عن المعصوم "المقدس لدى الاثني عشرية"، فما يتحدث عنه ويأمر به هو في الحقيقة من قبيل أوامر المعصوم الواجب طاعتها وعدم مخالفتها! هذه الفكرة الغريبة التي كانت تستخدم في التاريخ البعيد بأشكال متعددة، لأجل احتفاظ الحاكم بالقداسة وإخضاع الجميع له، هكذا تروج إيران لمرشدها بهذه العقلية القديمة في الحقيقة، وهي ربما أسوأ حتى من نظرية داعش المتطرفة بادعاء الخلافة، فداعش ولو نظريا لا تدّعي العصمة في رأسها، ولا أعتقد أن مثقفي وعلماء الشيعة لا يستوعبون أبعاد هذه الفكرة الغريبة والقديمة، ولكن للأسف، فإن الحالة الطائفية جعلت عددا من الشيعة يتناسونها بسبب البعد الطائفي، ومن أسوأ كوارث العقل المؤدلج أو الطائفي "السنّي والشيعي" أن أدلجته تمنعه من استيعاب وفهم الأمور كما هي، فهو دائما يحتاج إلى مَن يفكر بالنيابة عنه ولا يمتلك القدرة على التفكير الحر.

السؤال الآن: هذه الدولة بهذا التغوّل الطائفي وباحتكار العصمة والقداسة في رأسها؛ كيف يريد إخوتنا الشيعة أن يجمعوا بين هذا المبدأ والتعايش مع بقية العالم السنّي؟

فإذا كان أساس الحل -المبني على عزل الفكر الطائفي المذهبي بعيدا عن الحكم- أبعدَ ما يكون لدى رأس الدولة في إيران والدول التابعة لها في العراق وغيرها؛ فكيف يريدون من غيرهم أن يكونوا غير طائفيين؟

وبتأمّل الحالة بتفاصيلها؛ لا يمكن ولن يمكن الوصول إلى أي حل حقيقي في المنطقة سوى باستبعاد الطائفيين من الحل، وهذا ينطبق أولا على النظام الإيراني الحالي و"أتباعه" المنغمس في الحالة الطائفية من رجليه إلى رأسه!

هذا الكلام لا يعني أن الطرف السنّي ليس لديه مشاكله، بل لدينا كثير من المشاكل الفكرية والمعرفية التي تحتاج إلى نقد ومراجعات، وكتبت وكتب غيري في هذا كثيرا، وهناك حالة طائفية شديدة في كثير من التيارات السنية، ولكنها تبقى كلها تيارات أو مجموعات خارجة عن القانون تارة أو لا تمثل الأغلبية في أخرى، بينما نجد إيران -كنظام مسؤول وليس مجرد تيارات- وميليشياتها لا تخفي طائفيتها!

الحقيقة أن لدى كثير من المثقفين المستقلين بعض العتب على بعض المثقفين الشيعة، لأنهم لا يشاركون فعليا ضد الحالة الطائفية، فبينما نجد حالة الاستنكار الشديدة من مثقفي وعلماء السنّة ضد تصرفات داعش مثلا؛ فإن الحالة نفسها لا تتكرر مع حالة القتل والقهر التي يرتكبها النظام الهمجي السوري وميليشيات إيران في العراق وسورية، أو حتى مع بعض العمليات الإرهابية لبعض منتسبي التشيّع في المملكة، ولا شك أن حالة النقد والتجديد داخل المذهب الشيعي أقل بكثير منها في الحالة السنّية -باستثناء داخل إيران- ولهذا تفسير نفسي واجتماعي، ولكن في نظري أن المثقف يجب أن يكون حرا وشجاعا في طرح آرائه، وأنا أقول هذا وأعدّ نفسي حرّا لا ينتمي إلى أي مذهب سوى دين الإسلام قبل التقسيمات المتأخرة، وأرجو بهذا أن يُقبل النقد من محب وصديق وشريك.