لطالما نظرنا إلى الطبيب وإلى كل من يعمل في حقل الرعاية الصحية بإكبار وإجلال، ولطالما اعتبرنا ما يفعله ذروة العمل الإنساني ومنتهى السلم الأخلاقي. طبيبة أو طبيب يخرج لزيارة مريض أو يستجيب لحالة ولادة طارئة في عتمة الليل والناس نيام، وممرض يسهر على راحة المريض طوال الليل، يقدم له ما يحتاج إليه من عون، يناوله طعامه ودواءه، ويراقب ضغط دمه ودرجة حرارته، أو ضربات القلب، ويتابع التغيرات التي تطرأ على نظامه الفسيولوجي والنفسي، أو يرعاه فيما يعجز عن أدائه أو لا يقدر عليه أعز صديق وأقرب قريب. هؤلاء الذين يعملون بصدق وإخلاص، لا أظن إلا أنه سبحانه وتعالى نظر إليهم بعين العناية واختصهم من بين خلقه لوظيفة تسمو على ما سواها.
ولا عجب أن مهنة التطبيب، وكما هو مدون في كتب التاريخ، كانت وقفا على الفلاسفة والحكماء، ولا يمارسها إلا من نذر نفسه لخدمة البشر. واليوم هم قلة من يعمل بأخلاق المهنة، ويتحلى بإنسانية رحيمة، ونعرف من لا يأخذ من الفقير أجرا على الكشفية، وقد يدفع عنه تكلفة التحاليل وقيمة العلاج.
دائما نردد نحن بخير، لكن في راهننا، وما يمكن شهوده صورة أخرى، تغير حال السواد الأعظم ممن يعمل في التطبيب ومؤسسات الرعاية الصحية، وأصبح الأمر حرفة يزاولها التجار وتلوثها يد السوق بكل عفنها وقذاراتها. وأصبحت هموم المؤسسات الطبية تنحصر في جمع المال، لا يهم بعد ذلك إن تماثل المريض للشفاء أو لقي ربه.
قصص تدمع لها العين وأخرى يندى لها الجبين، وتجارب سمعنا بها أو تعرضنا لها تنبئ بهزالة الجانب الإنساني وغياب البعد الأخلاقي في كثير من المؤسسات الطبية، وبعض منسوبيها.
أن يتعرض أحد لنوبة قلبية فلا بد له أن يحمل معه مائة ألف ريال يدفعها مقدما للمحاسب وقبل أن تطأ قدمه المستشفى، سلوك مشين تجاه إنسان حياته في خطر. وإن جاوز، قد تفاجئه فاتورة علاج بعد أقل من يوم في المستشفى بأرقامها الخمسة وعشرات الآلاف.
وإن كنت ممن لا يملك فانتظر، وفرج الله قريب.
وزيارة لأحد أطباء العظام البارزين في جدة تنبئك عما وصلت إليه الحال، فقد يطول بك المقام، وتنتظر لساعات، كي تحظى بلقائه. وما يفعل ذلك إلا حرصا منه على وقته الثمين أن يذهب هدرا في انتظار مريض آخر لم يصل في موعده.
وطبيبة أمراض جلدية تصف أدوية لا يمكن أن تجدها إلا في صيدلية واحدة، قريبا من عيادتها، وتشارك هي في صناعة الدواء وأرباحه. قد تدفع مئات الريالات لزجاجة من مخفف زيت الهاهوبا، التي لا تساوي أكثر من خمس ريالات، بحسابات كلية الأرصاد التي تبيع الزيت المركز.
والقائمة تطول، فيها ارتفاع نسبة العمليات القيصرية، وفيها تنويم الأطفال في المستشفيات وهم ليسوا بحاجة، وتعريضهم للعدوى وحشو أمعائهم بالمضادات الحيوية والعقاقير. وفيها الدخول إلى غرف العناية المركزة التي ترهق المدخرات وحساب التوفير، إن وجد.
لقد ثبت قصور نظام الرعاية الصحية الذي يُترك فيه المريض فريسة للتجار. حتى في الولايات المتحدة، الذي يشبه إلى حد كبير نظامنا في المضمون، والتي تقتضي سياساتها الرأسمالية الابتعاد عن شؤون السوق والاكتفاء بفض النزاعات. فنظرية العرض والطلب على خدمات الرعاية الصحية في أمريكا أوصلت 72% من المواطنين إلى التذمر من صعوبة الوصول إلى العلاج المناسب بتكلفة محتملة، وانتهى المطاف بأربعين مليون أمريكي خارج نظام التأمين والمعاناة من نقص الرعاية الصحية. وخاض أوباما مع الديموقراطيين حربا ضروسا ضد الجمهوريين لتغيير نظام الرعاية الصحية، ونجح إلى حد يجد فيه أنصاره القدامى تخليه عن وعوده، بينما يتهمه الخصوم الجمهوريون بالميل نحو الاشتراكية، ... لكنه نجح في التأمين على شريحة كبيرة من المبعدين السابقين.
وعلى الجانب الآخر تفوق النظام الذي تتبناه دول مثل كندا والمملكة المتحدة، إذ يلقي بعبء إدارة أمور الرعاية الصحية المالية على الدولة بشكل أو بآخر. في هذا النظام لا يعرف المريض شيئا عن دفع التكلفة ولا يتعامل حتى مع شركة التأمين، ولا تقلق مضجعه فواتير العلاج، أو طول الإقامة في لوائح الانتظار، وليس بحاجة إلى من يأخذ بيده إلى أبواب المستشفيات.
لا غرابة في أن تكون نسبة من أبدى رضاه عن نظام الرعاية الصحية في كلا البلدين ضعف الذي وجدته دراسة إحصائية في الولايات المتحدة. في هذه الدراسة كانت 50% من العينة البريطانية راضية عن الخدمات الصحية المقدمة، وبلغت هذه النسبة في كندا قرابة 60%.
نحن لا نتحدث عن نظام كالموجود في مستشفى الملك فهد العام، بل نظام تتشارك أموره المستشفيات الخاصة والعامة مع شركات التأمين وتمثل المواطن في هذه المعادلة من الناحية المالية مؤسسات الدولة. فبعض النظم تدفع فيها الدولة قيمة التأمين كاملة، وفي بعضها يدفع المواطن جزءا من ذلك. والبعض الآخر يدفع فيه المواطن جزءا يسيرا من كلفة العلاج أو رسوم الكشف، لكن لكل مواطن حق في الرعاية الطبية تماما كما لغيره من الأثرياء والفقراء، سواسية كأسنان المشط.