أجبرت محاضرة (القائد العثماني فخري باشا.. الظالم المظلوم) الذي استضافها نادي المدينة المنورة الأدبي أول من أمس المؤرخين على العودة من جديد لفتح ملف محاكمة القائد العسكري العثماني فخري باشا المتهم بقضية أكبر مأساة تعرض لها أهالي المدينة المنورة والمعروفة تاريخياً بـ"سفر برلك"، مجمعين على أن الموضوعية والحكم عليه من خلال قراءة ملامح الحياة السياسية في عهده، ترجح ظلم القائد العسكري فخري أهالي المدينة، مما يستلزم رد أحكام كثير من المؤرخين والنقاد العرب الصادرة ضده.

وقلب وكيل وزارة الإعلام الأسبق الدكتور عائض الردادي في المحاضرة التي أدارها الباحث بمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني فهد السليمي، صفحات من تاريخ المدينة إبان تولي فخري باشا قيادتها قبل 100 عام، وما تعرض له سكانها من قتل وبطش وتجويع وتهجير خارج الجزيرة العربية، مستعرضاً الواقع المؤلم الذي ألم بالمدينة وأهلها في عهده حتى وصل الأمر بهم إلى أكل الجراد وأوراق الأشجار واختفت القطط و الكلاب وبقايا الجيف من الشوارع من شدة الجوع، راصداً حوادث تلك الحقبة من خلال مؤلفات شهود عيان اختارهم بعناية لإصدار حكمه ضد فخري باشا.


المداخلات


قال الدكتور شكري سماره لم تكن عمليات التهجير التي قام بها القائد العظيم فخري باشا معاداة لأهل المدينة أو الاستهانة بهم بقدر ما اعتبره تكتيكا عسكريا بنقل السكان داخل إطار الدولة الواحدة لحمايتهم من نتائج الحروب وتوفير المؤن للجيش داخل المدينة المحاصرة للاستمرار في الدفاع عنها. فيما طالب الناقد الدكتور أحمد الخراط إدارة النادي بتوثيق ما توصل إليه الدكتور عائض الردادي والمداخلين من نتائج بعد هذه المحاضرة التي تخصصت في تحديد الوجه الآخر لفخري باشا ورصدها بمؤلف ينهي الجدل حول هذه الشخصية. ومن جانبه أكد الباحث التاريخي عدنان عيسى: أن الترحيل أو التهجير كان في بدايته طوعياً ولم يكن إلزامياً، أصر فخري عليه عندما أشار لورنس العرب أحد رجال المخابرات البريطانية على العرب بقطع الإمدادات عن المدينة وقطع الشريان المتمثل في سكة الحديد، مما دفع القائد إلى إخراج أهالي المدينة منها لسببين: توفير المؤن للجيش، وعدم تحمل مسؤولية السكان في تلك الظروف الصعبة.

 





ثلاثة مؤلفات منصفة

وأكد الردادي أنه عاد إلى ثلاثة مؤلفين كتبوا عن حادثة "سفر برلك" الشهيرة من الجانبين العربي والعثماني إلى جانب دراسة الحياة السياسية والعسكرية والاجتماعية في عهد فخري باشا التي تدل على أنه قائد محنك استطاع الموازنة بين مطالب قيادة الجيش والدولة العثمانية والحفاظ وحماية المدينة، مشيراً إلى أن آراء المؤرخين والنقاد العرب حول فخري كانت تحت تأثير العاطفة والقومية مما أخرجها عن الحكم العادل، وتجاهل كثير ممن أرخوا لعهده الواقع وأسباب تلك المحنة وما حققه القائد العسكري من إنجازات لإعمار وحماية المدينة إبان ظروف سقوط الخلافة العثمانية.

وقال الردادي تغيرت نظرتي إلى القائد العسكري فخري باشا بعد تركيزي على ثلاثة كتب لشهود عيان رصدوا حادثة ما عرف تاريخيا بمأساة المدينة في "سفر برلك"، وهي كتاب "الدفاع عن المدينة" أو "كيف انفصلت عنا الحجاز" للمؤلف العثماني ناجي كاشف قجيمان، وهو ضابط عثماني خدم في حامية المدينة إبان تلك الأحداث، وتعرض مؤلفه الذي رصد فيه تلك الواقعة لانتقاد من النقاد والمؤرخين الأتراك، والكتاب الثاني هو "مذكرات عن الثورة العربية" لفائز زعل الغصين، وهو محام سوري من أعضاء الجمعية العربية للمطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، كان في الحجاز في أحداث ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني، والكتاب الثالث "ذكريات العهود الثلاثة" لمحمد حسين زيدان، وهو أيضاً شاهد على ذلك العصر، كتب بحيادية عن الثورة العربية وما صاحبها من أحداث.

وبين الردادي أن المأساة التي عرفت تاريخياً بـ"سفر برلك" بدأت بطلب الشريف الحسين بن علي من ابنيه علي وفيصل بإعلان الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، وإبلاغ حلفائه بذلك القرار وحشد الجيوش للهجوم على الحمية التركية بقرية "الجفر" غرب المدينة، الأمر الذي دفع قائد الجيش العثماني الرابع جمال باشا إلى إصدار أمر بانضمام قادة الجيش التركي في الشمال لمساندة الحامية التركية في المدينة بولاية فخري باشا، وإعطائه صلاحيات قائد الجيش وأمره باتخاذ أشد التدابير صرامة لإنهاء التمرد في أقصر وقت ممكن مهما كلفه من تضحيات وما نتج من حصار الثوار للمدينة وإغلاق ميناء ينبع ومأساة نقص الغذاء والدواء وانتشار الأمراض في صفوف الجيش والأهالي حتى أصدر فخري باشا عام 1333هـ بيانا للأهالي يخبرهم بنفاد الغذاء والأدوية وبأن الراغبين في الدفاع عن المدينة فبإمكانهم البقاء على ألا يطالبوا بالمؤن والغذاء والدواء مدة عام، أما ما عداهم فيمكنهم الرحيل إلى حيث شاؤوا حتى لا يتعرضوا لملحمة كبرى محتملة الوقوع في أي وقت، وأمهل فخري الأهالي شهرين لتنفيذ مقترحه قبل أن يأمر بترحيلهم جبرياً من المدينة عبر قطار الحجاز المتوجه نحو إسطنبول، واستمر هذا الوضع حتى أعلن فخري باشا صباح يوم الأحد الخامس من يناير عام 1919م استسلامه ضارباً بأوامر قيادة الجيش العثماني عرض الحائط، رافضاً استمرار تلك الأوضاع بمدينة رسول الله. واستدل المحاضر على ما ذهب إليه بأن فخري باشا غادر المدينة بعد استسلامه بموكب عربي وهو مرفوع الرأس، وعوقب بالسجن من قبل القيادة العثمانية بعد خروجه من الجزيرة العربية، كما أنه نال إعجاب المؤرخين الإنجليز الذين كانوا يطلقون عليه النمر العثماني، ولم يرصدوا كثيرا مما ألصقته به كتب التاريخ العربي، كما أن حالة الحرب فرضت عليه ولم يكن مختارا لها، وحاول التخفيف من نتائجها.