لم يدر بخلد الشاب الأميركي الخبير بنظم المعلومات إدوارد سنودن أنه سينتقل من وظيفة حارس أمن لإحدى المنشآت التابعة لوكالة الأمن القومي الأميركية بجامعة ماريلاند، إلى هارب من "العدالة" بتهمة التجسس، والخيانة العظمى لبلاده الولايات المتحدة الأميركية.

ظهر ذلك عبر الفيلم الوثائقي (المواطن الرابع) الذي أخرجته المخرجة لورا بويتراس، وحاز على جائزة الأوسكار لهذا العام، وسبق للورا أن أخرجت أفلاما وثائقية أخرى عن تجاوزات الحكومة الأميركية في العراق وفي معتقل جوانتانامو، ويلخص فيلم (المواطن الرابع) المسافة الزمنية بين مرحلتين مهمتين في حياة إدوارد سنودن، حيث انتهى به الأمر لاجئا سياسيا في روسيا بعد أن وضع مصداقية العدالة الأميركية على المحك!

سنودن كان ذكيا جدا في اختياره أهم وسائل الإعلام تأثيرا في الرأي العام، ولذلك تواصل مع المخرجة لورا يخبرها بأن لديه معلومات مهمة جدا، كما اختار صحيفة عالمية عريقة غير أميركية لتوثيق اعترافاته، وهي صحيفة "الجارديان" البريطانية عبر مراسل الصحيفة في الولايات المتحدة جلين جرينولد، والبريطاني أوين ماكاسكيل، حيث تم اللقاء الرباعي في أحد فنادق هونج كونج في يونيو 2013، واستمر التوثيق لمدة ثمانية أيام.

واختار سنودن الصحافة إيمانا منه بأنها سلطة محايدة، بعد أعوام من فقدان الأمل بالإصلاح من خلال حكومة الرئيس أوباما، ولذلك قرر أن يكشف أهم ما لديه من أسرار؛ بكونه موظفا في أهم جهاز استخباراتي في العالم (CIA) كخبير نظم معلومات.

في هونج كونج أعلن سنودن سره الدفين، حيث اعترف وأكد أن الحكومة الأميركية تراقب وتتجسس على كل وسائل الاتصال التي يستخدمها الأفراد في العالم من خلال برامج سرية وضعت لهذا الغرض وبنيت لها مقرات سرية تابعة لوكالة الأمن القومي الأميركية، وحالات التجسس هذه تحدث من دون أي أوامر قضائية، بل إن المواطن غير الأميركي ليس مشمولا بالقوانين التي تحمي تفاصيل الحياة الشخصية، حيث يتم تحليل محتوى المواد المتجسس عليها للوصول إلى نتيجة تعطي صورة عن تصرفات الشعب.

أحدثت اعترافات سنودن التي نشرت ابتداء كتقارير صحفية في صحيفتي "الجارديان" البريطانية، و"واشنطن بوست" الأميركية، مما سبب هزة دولية عنيفة للحكومة الأميركية.

في بداية الأمر لم يتم الإعلان عن مصدر تلك المعلومات التي تناولتها لعدة أيام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وبذلك لم يكن سنودن قلقا كثيرا، على الرغم من أنه أبلغ الأطراف الثلاثة الذين معه في الفندق رغبته في عدم التركيز عليه كمصدر كي لا يعيق ذلك الاهتمام بالقضية الأساسية وهي تجسس الحكومة الأميركية واختراق حياة الناس الشخصية، ولكن ما إن تم الإعلان عن مصدر تلك المعلومات حتى دبّ القلق في نفس سنودن، وبدأت جهود منظمات المجتمع المدني الدولية للبحث عن سبل لحمايته، ومنها مفوضية اللاجئين في هونج كونج ومنظمة ويكيليكس وغيرهما، حيث إن ما قام به قد حرك كل المياه الراكدة، خاصة بعد أن عرجت الأخبار الصحافية على وجود نظام مراقبة مماثل في بريطانيا، واتجاه الزخم الصحفي إلى ما نشرته مجلة "دير شبيجل" الألمانية عن تجسس الولايات المتحدة على بعض زعماء الدول الغربية، ومن ذلك مراقبة المكالمات على الهاتف المحمول للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، عبر هذه البرامج التي أعلن عنها سنودن.

تعقدت القضية كثيرا، بعد أن أصبح سنودن ورفاقه ملاحقين، وحاولت الحكومة الأميركية استعادة المتهم سنودن من هونج كونج، إلا أنه غادرها إلى طريق غير معلوم عبر طائرة خاصة استأجرتها منظمة ويكيليكس تمهيدا لمحاولة الوصول به إلى الإكوادور أو فنزويلا كلاجئ سياسي، إلا أن الأمر استقر به في روسيا، بعد أن استخدمت الحكومة الأميركية سلطتها فألغت جواز سفره وبقي لأكثر من شهر عالقا في مطار موسكو، إلى أن منح تذكرة لجوء سياسي موقت لمدة عام، لكنها امتدت حتى اليوم، وقد ظهر إدوارد سنودن مؤخرا عبر موقع التواصل الاجتماعي الشهير "تويتر" ليتابعه مئات الآلاف من المتابعين، وليتابع هو حساب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

أثارت فضيحة التجسس التي سربها إدوارد سنودن الرأي العام الأميركي والأوروبي، وسعت المجتمعات الغربية إلى حماية ذاتها من تغول السلطة الحكومية، ونظمت العديد من المؤتمرات الشعبية المطالبة بالإنصاف وحماية الحياة الشخصية للأفراد، وكان للبرلمان الأوروبي الممثل للشعوب الأوروبية تمثيلا حقيقيا، دور في الضغط على الحكومات الأوروبية بهذا الاتجاه الإيجابي، خاصة بعد كشف أن الباعث على الرقابة الحكومية والتجسس لم يكن الحفاظ على الأمن والخوف من الإرهاب، وإنما مصالح الحكومات والشركات الكبرى المنتجة لتقنية الاتصالات، بل ربما الدافع هو الخوف الحكومي من المواطنين وتحركاتهم عبر تحليل مستوى الاستخدام التقني للاتصالات المربوطة بالأنظمة المصرفية والأمنية وغيرها.

ورغم ذلك تبقى الميزة في الغرب وعي (الناس) بحقوقهم وخصوصيتهم وحرياتهم، ولذلك يستطيعون أن ينتزعوا حقوقهم بفضل وجود قضاء مستقل ونزيه في نظم سياسية ديموقراطية، وهو ما اضطر بعض الحكومات الغربية إلى مراجعة القوانين القديمة وسن قوانين جديدة تحمي الأفراد وخصوصية حياتهم الشخصية.

لقد أوضحت قضية سنودن انحيازه إلى قيمه الأخلاقية ومبادئه الديموقراطية التي تربى عليها، رغم أن ضغط الحكومات على وسائل الإعلام والاتصال واختراقها لها ما زال موجودا في أعرق الدول الديموقراطية في العالم.