يتداول الناس مفهوم "الشفافية" في مختلف القطاعات، وأخذ البعض ينادي بتطبيقها داخل الوزارات والجهات الحكومية الأخرى، ودائما ما يقترن هذا المفهوم بمكافحة الهدر والفساد واحترام الأنظمة والقوانين والإخلاص والتفاني في العمل، إضافة إلى التطوير والتحديث وأهمية الإصلاح الإداري وتطوير مختلف المجالات، واتخاذ كافة الإجراءات المطلوبة وفق معايير الشفافية والصدق في العمل والشعور العالي بالمسؤولية ومعالجة الأخطاء بصراحة ووضوح.

ونتيجة لاهتمام الرأي العام بمبدأ الشفافية ومكافحة الفساد، قامت بعض الجهات الحكومية برفع شعارات رنانة مثل شعار الإصلاح الإداري وتطبيق مبدأ الشفافية، وكثيرا ما تكون خلف هذه الشعارات بعض المهام الروتينية والشكلية، فلا توجد إجراءات حقيقية ولا معايير معتمدة تطبق ما تنادي به هذه الجهات، فهذه الشعارات مثل الفقاعات التي سرعان ما يتلاشى بريقها ويتلاشى وجودها.

نلاحظ لدى بعض الجهات الحكومية عدم الشفافية مع موظفيها أو المواطنين على حد سواء، فعلى سبيل المثال لا توجد شفافية في ترشيح الموظفين للدورات التدريبية أو الترقيات أو التوظيف، ولا توجد شفافية في ترسية المشروعات وتنفيذها ومعاملات المواطنين الأخرى كالقبول في الجامعات والابتعاث والتعاملات البلدية، كما لا تنشر الحسابات الختامية والتقارير السنوية للوزارات الحكومية سوى ما نقرأه في الصحف حول مناقشة مجلس الشورى لها وبشكل مجمل دون تفاصيل واضحة.. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، فبالرغم من أن الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد قد تضمنت بندا كاملا فيما يتعلق بالشفافية، إلا أننا لا نرى أية إنجازات على أرض الواقع فيما يتعلق بتطبيق هذا المبدأ من قبل "نزاهة"، وحتى تقاريرها السنوية لا تنشر على العموم، فقد تضمنت الاستراتيجية "إقرار مبدأ الوضوح (الشفافية) وتعزيزه داخل مؤسسات الدولة عن طريق ما يأتي:

أ - التأكيد على مسؤولي الدولة بأن الوضوح وسيلة فاعلة للوقاية من الفساد، وإن اعتماده كممارسة وتوجه أخلاقي يضفي على العمل الحكومي المصداقية والاحترام.

ب - تسهيل الإجراءات الإدارية والتوعية بها، وإتاحتها للراغبين، وعدم اللجوء إلى السرية إلا فيما يتعلق بالمعلومات التي تمس السيادة والأمن الوطني.

ج - وضع نظام لحماية المال العام.

د - توضيح إجراءات عقود مشتريات الحكومة والمؤسسات العامة والشركات المساهمة، وإعطاء الجمهور والمؤسسات المدنية ووسائل الإعلام حق الاطلاع عليها ونقدها.

هـ - كفالة حرية تداول المعلومات عن شؤون الفساد بين عامة الجمهور ووسائل الإعلام.

وبناء على ما سبق، فإن السؤال المطروح حول هذا الموضوع هو: هل يمكن حماية النزاهة ومكافحة الفساد من دون شفافية؟ فالشفافية تعد بشكل عام أحد المرتكزات الأساسية لنظم المحاسبة والمساءلة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال مكافحة الفساد في ظل غياب هذا المرتكز.

ولما كانت السلطة التنفيذية ممثلة في الوزارات الحكومية المختلفة، هي صاحبة الاختصاص المباشر في إدارة شؤون المواطنين وأموال الدولة العامة وتنفيذ الأنظمة والقوانين، فإن هناك أهمية بالغة في إخضاعها للمساءلة والمحاسبة عن جميع أعمالها، بما يضمن حسن تنفيذها لمختلف اختصاصاتها، وتتم هذه المساءلة من خلال اعتماد مبدأ الشفافية في تنفيذ الأعمال الحكومية ومن أهمها: تقديم التقارير الدورية عن الأنشطة وتقارير عن الحسابات المالية ونشرها وإخضاعها للمراجعة، وإلزام الجهات الحكومية بالإجابة عن الأسئلة والاستفسارات حول أدائها.

وكما رأينا آنفا أهمية تطبيق مبدأ الشفافية في الأعمال الحكومية، لكن يبقى السؤال المحير: لماذا لا تطبق الشفافية وتتجه بعض الجهات الحكومية إلى السرية وإخفاء المعلومات؟، ولماذا لم يلق مبدأ الشفافية الاهتمام الكافي من قبل "نزاهة"؟!

تعد الشفافية في الحقيقة من المبادئ الحديثة "الطارئة" على الناس، إذ لم تنبعث من طبيعة الثقافة الاجتماعية الأصيلة، بل اتخذت شكل شعارات وتصريحات وما أشبه، والفرد يقرؤها في الصحف والكتب والمواقع الإلكترونية لنزاهة والجهات الحكومية، وهي إذ تبقى فعالة في مجال الكلام والجدل والانتقاد فقط، ومن الصعب أن تتغلغل بتأثيرها في أعماق النفوس.

لا يخفى أن بعض الجهات الحكومية مصابة بالقصور والعيوب، والقيادات الإدارية فيها انبثقت من المجتمع الذي تعيش فيه واستمدت طبيعتها منه، فإذا كان المجتمع مصابا بالعيوب، فهذه القيادات لا بد أن تكون مثله مصابة بها، ومن هذه العيوب عدم الشفافية!

فالمجتمع على سبيل المثال يمتاز بالتكتم على مشكلاته ويتعامل معها بسرية تامة، ودائما ما يحاول إظهار الأمور على أتمها، وأنها بخير، ولله الحمد، ناهيك عن الخوف من العين والحسد، وعدم إظهار النعم والخير للآخرين، وليس هذا وحسب، بل إن من قيم المجتمع السلبية من أسبغ عليها الصبغة الدينية مثل ترديد حديث "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"، أو تسمية المجتمع بعوام الناس الذين يجب ألا يعلموا كل شيء والحديث إليهم على قدر عقولهم!

كما يمتاز المجتمع بعدم تطابق ظاهر الإنسان مع باطنه، وهذا يعني وجود حالة الرياء والكذب والنفاق في المجتمع؛ فالأب يكذب على زوجته وأبنائه، والعكس صحيح، والمعلم يكذب على طلابه في المدرسة وفي الجامعة والكلية، إضافة إلى الخوف من قول الحقيقة وتحمل المسؤولية، فالأشخاص الذين عاشوا مرحلة الطفولة والمراهقة تحت سلطة وسيطرة نظم التعليم والتربية الخاطئة والخطيرة، وعاشوا حالات التلقين والتقليد وتعلموا عدم قول الحقيقة والشفافية في التعامل، هؤلاء الأشخاص إذا أرادوا يوما التحرّك على المستوى الأخلاقي، فسيواجهون صعوبة كبيرة تقترب من المحال، فالصدق والشفافية ليسا بضاعة نشتريها من السوق، بل ثمرة من ثمار التحمل والصبر في مواجهة التحديات الصعبة في الحياة التي تضج بالمتغيرات على جميع المستويات.

ترسيخ المبادئ الأخلاقية مثل الصدق والأمانة يبدأ من التعليم والمسجد، ثم يأتي دور "نزاهة " لإقرار مبدأ الشفافية وفرض تطبيقه في العمل الحكومي.