ما العلاقة بين الضيافة والكرم؟ هل نحن أمام مجرد تعبيرين لمعنى واحد أم أن هناك فروقا ذات دلالات؟ يمكن من البداية أن نجد ارتباطا عميقا بين المعنيين، بمعنى أنه سيصعب علينا تخيّل إنسانة مضيافة ولكنها ليست كريمة، أو إنسانا كريما وليس مضيافا. بهذا نستطيع أن نقول إن كل مضياف كريم بالضرورة، وكل كريم مضياف بالضرورة. ولكن نلاحظ هنا أننا انتقلنا من الكرم والضيافة إلى الكريم والمضياف وهذا ربما يزيد من صعوبة التحليل أكثر، باعتبار أن فهم الأفراد وسلوكهم في كثير من الأحيان أصعب من فهم المعاني ذاتها. لنعود إذن للكرم والضيافة. هل كل ضيافة كرم؟ سأقول نعم ولو موقتا، لكني لا أعتقد أن كل كرم ضيافة. لنأخذ هذا المثال: شخص تعرّض إلى إساءة من شخص آخر ولكنه عفا عنه وغفر له خطيئته. هذا الإنسان يمكننا القول إنه قام بعمل فيه كرم أخلاق ولكننا لن نقول إنه استضاف الشخص الذي تجاوز عليه عنده أو أنه مضياف له. الضيافة تبدو لي مرتبطة بالمكان أو أنها الكرم المرتبط بمكان محدد. الضيافة مرتبطة بالأرض، لذا نجد أن الأشخاص الذين تستهدفهم الضيافة لهم سمات مكانية محددة. الضيافة تستهدف عابر السبيل وهذه سمة مكانية للشخص الذي يمر بأرض ليس له فيها مكان خاص. الضيافة تستهدف الغريب، وعادة الغريب على الناس غريب على الأرض. الضيافة الموجهة إلى المحتاج تعني تحديدا احتياجه إلى المأوى وإلى مكان يستقر فيه ولو لفترة بسيطة.
لهذا المكان، البيت، يبدو حيزا تحدث فيه الضيافة بالضرورة. لذا لدينا المضيف "من لديه ملكية أو أولوية على المكان"، ولدينا الضيف "من يفتقد مكانا خاصا له في لحظة الضيافة". الضيافة هنا تصبح تغييرا في معادلة المكان، بمعنى أن الضيافة تحدث تغييرا ولو موقتا في طبيعة العلاقة التي تربط الضيف والمضيف بالمكان. الضيف "يفتح" مكانه للغريب. المضيف الكريم لا يغلق بابه وكأنه بهذا يسلّم أو يتخلى عن سلطته وملكيته على مكانه. الضيافة هنا هي منح للمكان، إعادة توزيع للأرض، مشاركة وتغيير للحدود. عبارات مثل "البيت بيتك" أو "المحل محلك" تعبيرات تشير إلى ارتباط الضيافة بشروط المكان. لكننا نعرف أن الضيف يصبح صاحب المكان "اعتباريا" و"لفترة موقتة". الضيافة ليست بيعا للمكان وليست تأجيرا له. الضيافة موقف متعال على كل هذه المبادلات. علاقة الضيافة بالمكان لا ترتبط بمشهد واحد للضيافة، الضيافة وفيّة للمستقبل، لذا فهي تحافظ باستمرار على حالة المكان البينية بين صاحبه المضيف والضيف الذي سيقدم يوما ما. لذا الضيافة ترقب لا ينتهي بقدوم الضيف. المضيف دائما عينه على الباب المفتوح ينتظر علامات قدوم إنسان ما بلا ملامح واضحة. المضياف لا يغلق الباب بمجرد قدوم الضيف. هناك ضيف آخر على قائمة الترقب. الضيافة هنا استجابة لواقع الحدود والحواجز بين الناس. وسيلة للنجاة. لذا طالب إمانويل كانت بأن تكون الضيافة حقا من حقوق الإنسان الأساسية، أي ألا يعامل بعدوانية وأن تفتح له الحدود ليلتقي بغيره من البشر ممن سيفتحون له بيوتهم ويعطونه حق الضيافة. كان كانت واثقا من تجّذر قيم الضيافة بينهم ولكنه كان قلقا من الحدود التي تحجب الناس عن بعضهم البعض وتجعل الضيافة أمرا مستحيلا. الضيافة تولد مع الأبواب المفتوحة أو مع فتح الباب. فتح الباب علامة تقول "مرحبا" و"أهلا وسهلا" أو "تفضلوا"، "أقلطوا". أذكر أن جماعة الحارة كانوا يفهمون مباشرة من مشهد أن فلانا "فاتح بابه" أنه يرحب بالضيوف وأن القهوة تم إعدادها.
علاقة الضيافة بالمكان علاقة تحتاج لمزيد من التأمل. جزء من هذا التأمل له علاقة بقضية الضيافة وعلاقتها بالمكان العام والمكان الخاص. كل النقاش السابق كان متوجها بشكل خاص إلى المكان الخاص المتعلق بملكية الأفراد لمساحات محددة من الأرض. ولكن ماذا عن المكان العام؟ ماذا عن الضيافة في المكان العام؟ من الضيف ومن المضيف؟ سأكتفي الآن بالإشارة التالية هنا: نلاحظ مثلا أننا حين نذهب إلى النزهة في البر أو في أي مكان آخر ونستقر في مساحة عامة لا نملكها بشكل خاص، فإننا بهذه الأسبقية على هذا المكان أو بمجرد التواجد فيه فإننا نملك استحقاق استضافة الآخرين على هذا المكان. نقول للعابر المار بهذا المكان: تفضل.. مرحبا بك. هذه العلاقة مع المكان يمكن أن تكون فاتحة لنقاش أوسع. من هنا نلاحظ أن علاقة الضيافة بالمكان ليست بالضرورة علاقة "امتلاك" للمكان، لكنها بالأحرى علاقة ارتباط ومعرفة وأنس في المكان. علاقة معرفة بالمكان تعطينا القدرة على تيسير العلاقة بين هذا المكان وبين الزائر الجديد. لذا الضيافة هي إعادة العلاقة بين المكان والإنسان. لذا نجد أن الإنسان الذي سبقك على مقاعد الانتظار ثم دعاك إلى الجلوس بالقرب منه حين رأى ضيق المكان بالقادمين الجدد قد قدم في الواقع دعوة للضيافة وبابا مفتوحا، رغم أن علاقته بالمكان لا تختلف نوعيا عن علاقة القادم الجديد. ربما أننا هنا أمام معنى مختلف لمعنى المكان والحدود يمزج بين البيت المفتوح والضمير المفتوح. هذا سيكون موضوع نقاشنا القادم.