لكي نفهم الحاضر ربما علينا العودة إلى الماضي بين الحين والآخر. لهذا السبب أو لأسباب أخرى وجدت نفسي مشدودا إلى مشاهدة فيلم (حرب تشارلي ويلسون) بعد مرور عدة سنوات على مشاهدتي له أول مرة. الفيلم مأخوذ من وقائع سياسية حقيقية دونها الصحفي الأميركي (جورج كريل) في كتابه الذي له الاسم نفسه الذي حمله الفيلم بعد ذلك.

يحكي الفيلم قصة عضو الكونجرس الأميركي الذي استطاع إقناع حكومته بتمويل (المجاهدين) الأفغان بعد أن كانت تراقب التقدم السوفيتي في أفغانستان بعدم اكتراث تقريبا. استطاع ذلك السيناتور عقد توازنات من أصعب ما يكون بهدف تزويد الأفغان بأسلحة روسية تجمع لهم من أطراف العالم كي يبدو وكأنهم يقاتلون السوفيت بما غنموه منهم في معاركهم.

قد يبين لنا هذا الفيلم السبب الذي تخفق من أجله أغلب التحليلات السياسية التي يقوم بها الخبراء ونقرأها ونشاهدها كل يوم. فالملمح الأبرز لتلك التحليلات عادة هو عنايتها بما هو قابل للقراءة فقط من دوافع سيادية واقتصادية تعبّر عن مصالح الكيانات السياسية المعروفة على افتراض أنها كيانات واعية تماما بمصالحها وتتحرك وفق منطق سليم قابل للقراءة دائما.

ولكن العالم في حقيقته على ما يبدو مختلف جدا عن النظرة المبسطة التي يزعمها أولئك المحللون. فالدوافع الفردية (على سبيل المثال) للعناصر المؤثرة في الحدث تكاد تكون مهملة في تحليلاتهم، وذلك لغياب المعطيات المتعلقة بها في الغالب. لا سيما أن تلك الدوافع لا تكون عقلانية أو مادية دائما رغم قوة تأثيرها في صناعة الفعل السياسي.

ففي (حرب تشارلي ويلسون) نجد أن هذا السيناتور نفسه لم يقرر خوض هذه المهمة إلا بعد إغرائه من قبل (جوانا هيربنج) سيدة المجتمع باذخة الثراء، وهو في هذا مندفع بمصلحته الشخصية أكثر من اندفاعه بمصالح بلاده العليا رغم تساوقهما المصادف في تلك المهمة. ولكن ماذا عن دوافع هيربنج نفسها؟ بحسب القصة فإن هذه السيدة ذات النفوذ القوي في الدوائر السياسية تقع رغم ذكائها الفائق تحت تأثير شيء أشبه بالهوس الديني، ذلك الشيء الذي يدعوها إلى معاداة الشيوعية دون هوادة. ومن الالتقاطات التي يظهرها الفيلم بهذا الخصوص كيف عاد ويلسون إلى موافقة هيربنج باستعمال الدين كمحفّز يستدرج به رئيس لجنة إمدادات الدفاع الخارجي بعد أن لاحظ تلك الدرجة التي يستحوذ بها الدين على نظرته إلى العالم، في حين أن ويلسون كان يرفض استعمال أي لغة دينية في مداولاته السياسية ظنا منه أن هذا سيؤثر على اتساقه مع القيم العلمانية الأميركية في نظر من يتعامل معهم.

من الأشياء التي يعرضها الفيلم بمرارة هو تلك المفارقة الذي يجسدها نجاح ويلسون في حصوله على مئات الملايين من الخزينة الأميركية لأغراض قتالية في أفغانستان، وإخفاقه بالمقابل في الحصول على بضعة ملايين من الخزينة ذاتها بهدف تمويل بعض المشاريع التنموية في أفغانستان بعد الحرب، رغم إشارته أثناء تفاوضه إلى مقدار الخطورة المستقبلية لإهمال هذا الأمر، ولست أدري إن كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر من التداعيات التي كان يشير إليها ويلسون محذرا. وهو الشيء الذي يبدو أن الأميركان ما زالوا مصرين على إهماله بعد خروجهم من كل بلد كانت توجد فيه قواتهم وليس تجاهل ملف إعادة إعمار العراق عنا ببعيد. ولعل هذا مرتبط بطبيعتنا البشرية التي تسهل انصياعنا إلى الحافز القتالي دون ارتباط ذلك بغريزة الخوف والحرص على البقاء. مع قصور شعور الإنسان الذي يجعله تحت وهم الألفة يظن كل خطر بعيد خطرا لن يأتي.

أكتب هذا المقال وأنا أتابع كغيري التطورات التي تجري في منطقتنا، والتي كان من أبرزها دخول روسيا كلاعب مباشر لم يعد يكتفي بمجرد الاعتماد على حلفائه في المنطقة، مع موقف سلبي يراه البعض محيرا من قبل حلف الناتو.

قتال داعش هو الذريعة المعلنة لهذا التدخل، وإنقاذ نظام دمشق من السقوط هو الهدف الأساسي لهذا التدخل بحسب بعض المحللين. في حين أن محللين آخرين يومئون إلى تخوف الروس مما حدث مؤخرا من تقارب غربي إيراني، حيث حثهم ذلك على قطع الخط برسالة مفادها لا حلّ لأي أزمة في المنطقة إلا من خلال روسيا العظمى. ولكن يبقى بالتأكيد ما هو خارج حسابات المحللين دائما مما يؤدي إلى خذلان تكهناتهم في أحيان كثيرة. فلا شيء يمنع من القول باحتمال وجود (تشارلي ويلسون) جديد يتحرك في هذه الأثناء بخطوات ثابتة ستؤدي في النهاية إلى تغيير كثير من معادلات المنطقة الاستراتيجية. من المهم أن نتذكر دائما أن تعوّد أعيننا على رؤية البجع الأبيض لا يعني إطلاقا استحالة ظهور البجعة السوداء التي لا يتنبأ بظهورها أحد في العادة.