تعرّض ابن تيمية -يرحمه الله- للمحنة أكثر من مرة بسبب مذهبه الاعتقادي أولا، ثم بسبب بعض آرائه الفقهية ثانيا، ودخل السجن أكثر من مرة، حتى توفي -يرحمه الله- في القلعة وهو سجين.
امتحان الناس في عقائدهم مسلك مرذول، فالإنسان مكلف بعقله هو لا بعقل غيره، ثم هو مخالف للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو شأن يخص الإنسان ذاته بينه وبين الله، والزعم بأن تفاصيل مسائل الاعتقاد -فيما سوى المجملات الواردة قطعا دلالة وثبوتا- التي اختلفت فيها طوائف الأمة عليها إجماع من الصحابة نقل متواتر؛ هو زعم دون إثباته خرط القتاد، لكن ليس هذا مورد إيضاح هذه المسألة.
سأل رجل من العراق ابن تيمية أن يكتب له رسالة في الاعتقاد يلتزم بها هو وأهل بيته، فكتب له ابن تيمية رسالة مختصرة، ولأن الرجل من قرية عراقية يقال لها: واسط؛ اشتهرت تلك الرسالة بـ"العقيدة الواسطية"، ولندع ابن تيمية يروي القصة بنفسه فيقول: "قدم عليّ من أرض واسط بعض قضاة نواحيها -شيخ يقال له "رضي الدين الواسطي" من أصحاب الشافعي- قدم علينا حاجا وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة؛ فخذ بعض عقائد أئمة السنة فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت فكتبت له هذه العقيدة"؟.
هذا السبب إذن! فما العقيدة الواسطية إلا فتوى كتبها ابن تيمية لهذا السائل المستفتي بعد أن اعتذر له عن كتابتها وحاول التملص، وبعد أن ألحّ عليه السائل مرارا وأحرجه، وقد كتبها له ولأهل بيته خاصة ولم يكتبها ابن تيمية لعامة المسلمين، ولم يكن في نيّته أن تكون متنا تتدارسه الأمة، ولم يبتدئ فيها أحدا ولا بادر ابن تيمية بنفسه ليدعو إليها، ولكنها انتشرت في العراق ومصر وتم تداولها بين الناس، وهو ما آذى خصومه الأشعرية فشكوا إلى السلطان فأتى به ليمتحنه في عقيدته على مشهد من القضاة والشيوخ يناقشونه ويستوقفونه ويجادلونه.
أما ابن تيمية فكان على يقين أن ما خطّه في العقيدة الواسطية هي عقيدة السلف، وقال بكل قوة وحزم: "قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين؛ فإن جاءني بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عنه".
وبغض النظر عن قطع ابن تيمية في أن عقيدته هي بعينها عقيدة السلف، وبغض النظر عن هذه الشجاعة والجسارة في هذه الدعوى التي بالإمكان مناقشتها؛ فإن ما يهمنا هنا شيء آخر، ما يهمنا هنا هو قول ابن تيمية في سياق الدفاع عن نفسه، إذ قال: "أنا ما بغيت على أحد ولا قلت لأحد: وافقني على اعتقادي وإلا فعلت بك، ولا أكرهت أحدا بقول ولا عمل، بل ما كتبت في ذلك شيئا قط إلا أن يكون جواب استفتاء بعد إلحاح السائل واحتراقه وكثرة مراجعته ولا عادتي مخاطبة الناس في هذا ابتداء".
فهذا شيخ الإسلام -يرحمه الله- يقول هنا إن هذه المسائل الاعتقادية لم يُكرِه أحدا عليها، ولم يفرضها على أحد، بل إنه "ليس من عادته" ابتداء الناس بهذا، ولا مفاتحتهم، ولا إشغالهم فيه، بل إنه لم يكتب في ذلك شيئا (قط) -وتأمل قوله "قط" وهي كلمة تستعمل لتأكيد النفي في الماضي- إلا جواب استفتاء، يأتيه السائل فيطلب منه كتابة شيء من هذا الباب فيعرض عنه، فيلحّ عليه السائل ويكثر مراجعته فلا يكتب له ابن تيمية حتى "يحترق" السائل تشوفا لهذا.
النص الأخير هذا لابن تيمية أرجو من القارئ تأمله طويلا طويلا، والتعمق فيه، وتفكيكه وقراءة المسكوت عنه فيه.