أعرف مسبقاً حجم التشكيك أو الطعون التي سيقابل بها البعض فكرة هذا المقال مثلما أدرك أن في الكتابة عن بعض القضايا الجوهرية شبهاً وتشبهاً بالمشي فوق الحبال المشدودة. لا تجد الموضوعية مكانها الصحيح حين تبدأ الشكوك في النوايا ما بين المرسل وبين المستقبل. مع هذا سأقول كلمتي كي أقول بعدها إنني قلتها ومشيت. استوقفني مطلع الأسبوع الماضي ذلك الخبر الذي يشير إلى الضرر المحتمل لما يقرب من خمسين ألف طالب يدرسون في ما يقارب 2980 مدرسة (حلقة) لتحفيظ القرآن الكريم في مدينة جدة وحدها على خلفية القرار الإداري بسعودة المعلمين الذين يعملون في هذه المدارس. والقصة في الرقمين: رقم الطلاب ورقم المدارس إذ إن الرقم المعلن يشير بالتحديد إلى ما يناهز ثلاثة آلاف معلم تحفيظ مستقدم، ونحن هنا لا نتحدث عن مجرد ثلاثة آلاف وظيفة شبه جاهزة للآلاف العاطلين من طلبة الأقسام الشرعية من أبناء الوطن، بل بكل صراحة، عن (المجهول) الفكري الثقافي ومن قبله العقائدي أو المذهبي الذي لا نعلم عنه شيئاً في ما يزيد عن (2900) حلقة في مدينة واحدة. زد على ذلك أنك لن تدخل موقعاً إلكترونياً واحداً من مواقع الجمعيات الرئيسية لتحفيظ القرآن الكريم الثلاثة عشر في ثلاث عشرة منطقة سعودية إلا وتقرأ في العنوان الرئيسي دفاعاً مستميتاً عن خلو هذه الحلقات من أي فكر مشتبه به ونفياً قاطعاً لعلاقتها بالتغذية للفكر المتشدد. ويكمن التحدي الجوهري الذي لابد أن تجيب عليه هذه الجمعيات الرئيسية كي يقبل المجتمع سلامة البيئة الفكرية ليس إلا هذا السؤال: ما هي المنطلقات المعيارية في الإشراف والتوجيه والتفتيش كي تكون هذه الجمعيات على ثقة من سلامة هذه البيئة الفكرية وخصوصاً إذا ما عرفنا استحالة تطبيق أي معيار موضوعي في ظل الكثافة بالمقاربة مع الأرقام التالية: حين تبلغ عدد مدارس التعليم العام، وتحت إشراف وزارة التربية والتعليم بحسب الإحصاء التعليمي على موقع الوزارة، وللجنسين، 23364 مدرسة من الروضة حتى الثانوية. وفي المقابل تبلغ أعداد حلقات تحفيظ القرآن الكريم للعام نفسه 24450 حلقة أي أن كتلتها أكبر من عدد مدارس التعليم العام للجنسين بما يناهز الألف حلقة وبكتلة مدرسي تحفيظ تبلغ 20919 فرداً لا يشكل (السعودي) منهم سوى أقل من 5% من مجموع معلمي حلقات تحفيظ القرآن الكريم. وفي المقابل، احتاجت وزارة التربية والتعليم إلى ما يقارب 69 ألف موظف لملء القواعد الإدارية والتربوية (غير المعلمين) في قلب هذه المدارس، ناهيك عن جيش كامل من الموجهين الإداريين والتربويين في جسد الوزارة التي تستأثر وحدها بما يناهز 60% من مجموع كامل موظفي الدولة في جهاز الخدمة المدنية. هنا يبرز السؤال: ما هي الهيكلية الإشرافية إدارياً وتربوياً، وأعمق من هذا مراقبة فكرية، تلك التي تعتمدها هذه الجمعيات لمواجهة هذا الحجم الهائل من حلقاتها التي تزيد على مدارس التعليم بما يقرب أو حتى يزيد من الألف؟ ولا يظن أحد على الإطلاق أنني أجرؤ على وزر الدعوة لقفل هذه الحلقات أو تحجيم هذه الجمعيات أو الاتهام بلا دليل لما لم يثبت لدي. على العكس تماماً، أنا أدعو أولاً لأن تكون هذه الحلقات بيد أبناء الوطن الذين ترشحهم كلياتهم وأقسامهم التي تخرجوا منها، وأدعو ثانياً لتكثيف وظائف الإشراف والمراقبة الفكرية، وبيد أبناء الوطن، وهو ما سيتيح تماماً فتح ثلاثين ألف وظيفة تضطلع بها هذه المؤسسات المدنية التي يعرف الجميع أنها منظومة بالغة الثراء وأنها بهذا تستطيع أن تعمل فعل الخير المزدوج: تحفيظ كتاب الله وفتح ثلاثين ألف منزل لحياة كريمة. مقاربات الأرقام تبرهن بكل وضوح أن وضع هذه الحلقات يستحيل على أي مراقبة فكرية وأن الاستماتة في الدفاع عن سلامة بيئتها تفتقد لأدنى المعايير الموضوعية.

نحن نعلم بالضرورة أننا في حالة اختراقات فكرية من كل المنظمات التكفيرية أو المتطرفة وأننا مستهدفون بالدرجة الأولى لأننا معقل الإسلام وحاضنته. نحن لم نستطع السيطرة الكاملة على الرقابة الفكرية على عدد من المدارس الحكومية العامة أقل من عدد حلقات تحفيظ القرآن الكريم رغم أن كل خمسة معلمين بالميدان يقابلهم إداري أو موجه تربوي. ثم إن السؤال الأخير يعتمد بالضرورة على طرح الاستنطاق الفكري ونحن نسلَّم كل هذا العدد الهائل من هذه الحلقات لجيش من الاستقدام الثقافي والأيديولوجي دون أدنى حذر من تأثير هذه البنية المستوردة. نحن نعلم أن السواد الأغلب من هؤلاء يأتون من شبه القارة الهندية بدولها الأربع مع مشاركة بعض الإخوة من جنسية عربية محددة. وفي المقابل نحن أول من يعلم أن هذه المناطق الجغرافية بالتحديد من قلب الخريطة الإسلامية هي المصنع الذي تشكلت فيه جل الملل والنحل ومن يقرأ الكتاب الشهير لموسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة سيدرك بالطبع أن سواد هذه الملل والنحل قد ابتدأت من تلك الأماكن بالتحديد وانظروا حجم الأتباع لكل تلك الطرائق التي يذكرها المجلد الضخم للموسوعة لتعرفوا أي بيئة ندفع إليها أجيالنا في هذه الحلقات دون وعي منطقي لما يمكن أن يحدث. خذ بالمقاربة أن خمس معلميها من الجنسية الأفغانية ولا حرج لدي في ذكر ذلك، وبالبرهان، ومصدر قلقي أننا كلنا نعرف جذور هذه البيئة. نحن لا نشتكي أبداً نقصاً ولا ندرة في المورد البشري المحلي الذي يستطيع سد هذا الفراغ فهم بالآلاف على رصيف البطالة. نحن نشتكي من أننا لا نملك برهاناً موضوعياً للدفاع عن بيئة هي بكل المقاييس تستعصي على المراقبة.