في ظل هذا الصخب الاستهلاكي والاستلاب العولمي والإسراف الحضاري والانكباب المقيت والباهت على مكنون العصر والتماهي معه، وإشاحة العقل والوعي الجمعي والتغافل عن إرثنا البشري، وطمسه وتغييبه، بفعل حمأة الواقع الملتهب والصاعق وركام التمزقات تحت عجلات الإنجاز التكنولوجي الخادع والمضطرب والمتنافر، استمرأ البعض منا النظر إلى ما نملكه من ثروات وطنية من المكتشفات في الحقب التاريخية، وما يخفيه ظاهر أرضنا وباطنها من التراث وآثار الاستيطان، والمنشآت الحجرية والرسوم الصخرية، والنقوش والحفريات، والطرق التجارية في عصور ما قبل الإسلام، وغيرها من المدافن والمقابر والحضارات المطمورة، والمساجد التاريخية والمناجم والعمارة التقليدية، والقصور والحصون الحربية والقلاع والقصبات والموروث القولي والفعلي. كل هذا ليس إلا دعوة كما يرون للمهادنة والارتداد والبكاء على الأطلال الباردة، والوقوع فريسة لمخالب الماضي وأسواره، والتحصن خلف مخزون راكد ساد ثم باد وتهرأ، وليتهم يعلمون أن ذلك الموروث لا ينعزل عن حركة التاريخ والاستجابة العميقة للتجربة الإنسانية المعاشة، والتناغم مع الوعي البشري وما يزفه من مداليل مفتوحة، وإيحاءات مكثفة للبعد التاريخي والماورائية والعمق المتعاظم، والتجسيد الحسي والشعوري المرهف والاكتناز الذهني، لما يمثله هذا الوطن الشاسع من استقطاب وحضور جوهري وغلبة تاريخية وامتداد كوني عبر الزمان والمكان، بل هو الشهادة المادية والمرجعية المعرفية والوثائقية التي تفصح عما تمثله أرضنا من مدارات استبصارية، وحواضن ثقافية وذاكرة اصطفائية عابرة للعصور والأزمنة، ولكننا لا نزال نتردد في توظيف وإحياء تلك الماضوية التاريخية بطرح مبررات ومنطلقات ضاغطة ومستريبة ومعطلة وواهمة. ما دفعني لكتابة هذه (الخاطرة) هو ذلك الاستطلاع الذي قرأته في صحيفة (المدينة) والذي يتحدث عن قرية (صدر أيد) الواقعة على بعد ثلاثة كيلومترات من محافظة (النماص) بمنطقة عسير، والتي تضم العديد من المنازل والقلاع التاريخية التي تعود إلى ثلاثة آلاف سنة، وقد ذكر (غارم العمري) نائب القرية أن مسجد (صدر أيد) بني في عهد (هارون الرشيد) وأكد ذلك المؤرخ الدكتور (عمر العمري)، ويوجد بمحراب المسجد من الخارج مخطوطة صخرية من عام 170 هجرية، مكتوب عليها وصية باللغة العربية قبل التنقيط، إلى جانب بعض النقوش على جدران القرية والمكتوبة بالخط (الثمودي) كما يوجد بها ما يسمى (السفول العمياء) وهي عبارة عن ثلاثة طوابق تحت الأرض، وليس لها إلا مدخل واحد صغير وتمتد إلى آخر القرية، وتبلغ مساحتها خمسين مترا في الطول وثلاثين مترا في العرض وليس لها نوافذ وكان الغرض منها توظيفها في الحروب والغزوات القديمة، ترى من يعرف (صدر أيد)؟