صدام مستمر بين الناقد والمبدعين حتى يصل في بعض الأحيان إلى حد العداء! بالرغم من أنه يفترض أن تقوم بينهم صداقة وحميمية تسمو بكل الإنتاج الإبداعي وتعضده. من أين جاء مفهوم هذا العداء؟ وهل هو يرجع إلى النقاد أنفسهم أم يعود إلى تعالي المبدعين وعدم قبول النقد بأي شكل وبأي طريقة؟ فلا يشهد العالم كله هذا العداء سوى في مجتمعنا العربي!

المبدعون يصرخون والنقاد يتذمرون، وما بينهما تضيع الأعمال في المفازة، ومن يدفع الثمن هو المجتمع الذي يحتاج إلى توصيل الرسائل. ويرجع ذلك للتسمية ذاتها التي أطلقها العرب دون غيرهم على هذا النوع من الإبداع. فالناقد في العالم يطلق عليه مسمى "crietic" والنقد ذاته يطلق على "criticism"، فمن أين أتت كلمة النقد، وهل لهذا المسمى العربي تأثير في العلاقة بين الناقد والمبدع وما أفرزته من عداء متبادل؟!

في أصل الكلمة عند العرب هو التمييز بين العملة غثها من ثمينها، ولها موظفون لدى الخزانات يعملون في فرز العملة، وسمي هذا الموظف باسم ناقد. وهذا أول معول في نعش وظيفة النقد، إذ إن التمييز بين الرديء من الغث ليس من وظيفة الناقد الفني والأدبي، ولهذا نشأ مفهوم الانتقاد وهو إبداء العيوب، وتبعه بعد ذلك مفهوم (المنقود) وهو العيب ويعده العرب من خوارم المروءة؛ هذا أولا.

ثانيا: نص ابن السلام الجمحي في القرن الثالث الهجري في كتابه طبقات فحول الشعراء رسخ هذا المفهوم وهو من أوائل النصوص النقدية التي تتضمن كلمة (نقد، ناقد) "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان، ومن ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة بالبصر: ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا بلمس ولا طراز ولا رسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها.. وكذلك بصر، فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون جيدة الشطب، معتدلة القامة، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة اللسان، واردة الشعر، فتكون في هذه الصفة بمائة دينار، ومائتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار أو أكثر ولا يجد واصفها مزيدا على هذه الصفة.. فكذلك الشعر يعرفه أهل العلم به".

نلاحظ أن ابن سلام في هذا النص يستعمل كلمة الناقد، بمعناها اللغوي الذي يدل على تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير، ومن هنا ارتبط النقد عند ابن سلام بذكر المحاسن والعيوب ثم انتقل هذا الفهم إلى العامة من العرب ما دعا إلى الصدام الدائم بين النقد ووظيفته.

ثالثا: هو امتهان النقاد غير المتخصصين مهنة النقد، ولعدم فهمهم وظيفة النقد وآلياته أخذوا يشحذون سنان أقلامهم بحسب مفهوم ابن سلام؛ فيتداعى الإبداع ويثور المبدعون ويضج الشارع بغث ما يراه ويسمعه! فإذا كان معنى النقد في اللغة العربية هو التميز بين جيد العملة "فضية أو ذهبية" وبين زائفها، فهذا يستلزم من الناقد الخبرة والفكر، "المعيار النقدي على أسس معيارية" ثم الحكم. وهذا هو المعنى القريب من الأصل الاشتقاقي لكلمة نقد في اللغات الأوروبية، أما النقد الانطباعي فهو نوع من الظلم والاعتداء، وهو ما يسمى بالنقد الساذج، لأنه يتبع التفضيلات الفطرية التي فطر عليها الإنسان وبدون معيار!

فالنقد بمفهومه العلمي والعالمي له وظيفة خاصة تتبع علوم ومعايير لا يفقه كنهها إلا الناقد المتخصص، ووظيفته –أي النقد- هي: توصيل الرسالة إلى المتلقي عبر سلسلة من التحليل والتفسير وليس الاعتداء على الأعمال بإبراز العيوب كما فهمه العرب. فإذا كان العمل الإبداعي رسالة من مرسل إلى متلقٍّ عبر وسيلة؛ فالناقد يقع في المنطقة الوسطى يحلل ويفسر كي تصل الرسالة واضحة جلية المعالم إلى متلق قد لا تتضح له الرسالة. والنقد بالإضافة إلى كونه علما من العلوم الإنسانية إلا أنه أيضا "ملكة من ملكات الآذان"، فالإنسان فطر على الحكم على ما يقع أمامه من الأشياء، وتفضيلات الأطفال أحسن نموذج على ذلك، لكن هذا الحكم كثيرا ما يفتقد العلة والتبرير للتفضيلات، وهو ما يمكن تسميته "النقد الساذج"، ولكي يعرف الإنسان السبب وراء تفضيلاته يجب أن تكون لديه الخبرة والمعرفة الأصيلة بقواعد وأسس اختيار الجيد من الرديء. وهذا ما يفتقده النقد في عالمنا الثقافي المعاصر. والمعرفة هي إحدى ركائز الناقد إن جاز التعبير، وذلك يشغل حيزا كبيرا من أدوات الناقد "فالمطابع مغازل والباحثون ديدان قز، فاحذر أن تتعقد حولك خيوط الحرير". وهذه مشكلة من مشاكل النقد الحديث، فعندما نتحدث عن الناقد ودوره في العملية الإبداعية فإننا نتحدث عن عصب مهم في مهمة المبدع وأثره على المتلقي، وبالتالي المجتمع حتى يصل الأمر إلى الفرد الواحد داخل البنية الاجتماعية، فالناقد هو تلك القناة التي يتم من خلالها فهم وتوصيل الرسالة، ثم صياغة الوجدان الجمعي في نهاية الأمر بعيدا عن تشتيت الصورة الحقة أو الإساءة إليها. أصبح النقد إبستمولوجيا في قرننا هذا، أي أنه أصبح خطابا حول أسس الخطاب العلمي نفسه كما مع الفرنسي "غاستون باشلار". فيشهد زماننا الحالي هجوما مركزا على المسلّمات التي كانت ترتكز عليها المعرفة كبراءة العلم وسلطة العقل ومركزيته.

وللنقد مدارس ومدارك يصعب على هذا المقال حملها، إلا أن هناك مدارس نقدية حديثة يتخذها الناقد مشرطا يشرح بها ما بين يديه من أعمال إبداعية، ويكفي أن نذكر في هذا المضمار عمل الألماني يوجينى هاربر، والفرنسيين ميشال فوكو وجاك دريدا، وهيليس ميلر، وبوب دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم ولوسيان جولدمان وبارت وغيرهم. إن العلوم الإنسانية من اقتصاد وألسنة وتحليل نفس قد زعزعت الثقة بالصرح الإنساني. ومن هنا كانت الصعوبة القصوى في الحديث عن أية نظريات.

فإذا ما وجد الناقد الحق المتمرس تناسقت كل العلاقات بين الإبداع والنقد والمبدعين واختفى كل هذا العداء، وحمل العالم رسالة السلام الإبداعي بين كل الأطراف. فارفعوا أيديكم أيها النقاد الفطريون عن الأعمال الإبداعية وعن المبدعين أنفسهم، ليصلح حال الشارع العربي.