تجارب الناس في هذه الحياة مثل بصمات أصابعهم أو أعينهم لا يمكن أن تتطابق وإن تقاطعت في بعض المواقف أو الآليات، فكل إنسان له قدراته الخاصة وطموحاته وإمكاناته التي في ضوئها يصوغ تجربته ويخوضها، ولو وضعت إنسانين في ظروف واحدة متطابقة لخرجت بنتيجتين مختلفتين لأن لكل منهما تجربته، ومع ذلك فأنا من المغرمين بقراءة ومعرفة تجارب الآخرين، فهذه التجارب تمنح الإنسان حافزا وإضاءات للتقدم والتطور والنجاح حتى وإن تضمن بعضها علامات فشل أو إخفاق لأن هذا يشكل رادعا للإنسان وكبحا لجماح تهوره أو أوهامه.

ومن هذا المنطلق قرأت بإعجاب قصة الدكتور محمد شرفي أبو ساق التي أوردها زميلنا المتألق عبدالله المغلوث أمس في هذه الصحيفة فتجربته جديرة بأن تكون في كتاب تتداوله الأجيال لا لتقلدها وإنما لتأخذ منها حافز الإصرار على النجاح وتحقيق الطموح، وبنفس الإعجاب كنت خلال الأيام الماضية أقرأ وأسمع تجارب شباب وشابات الأعمال التي قدموها في معرضهم الأخير بالغرفة التجارية والصناعية في جدة، واختتمه الأمير خالد الفيصل مساء الجمعة الماضي محفزا ومشجعا لهم بقوله: بالإرادة والإدارة تحققون الصدارة. وهي ذات الوصفة التي أعتقد أن الدكتور أبو ساق تعاطاها طيلة مسيرة تجربته التي كابد فيها حتى أصبح في صدارة مشهد جامعة مانشيستر البريطانية.

لدينا الآن في المملكة مشكلة واضحة نتحدث عنها ليلا ونهارا وسنظل نتحدث وندندن حولها إلى ما شاء الله ألا وهي مشكلة البطالة، وهي مشكلة فعلا وقد تصبح كارثة إن استمر تفاقمها على النحو الذي نلاحظه أمام تدفق الخريجين والخريجات السنوي الضخم، واتجاه الغالبية العظمى منهم إلى البحث عن وظيفة غير موجودة لمن سبقهم في البحث عنها بسنوات، وحين أقول البحث عن وظيفة فإنني أريد التفريق بين الباحث عن وظيفة وبين الباحث عن عمل، لأن الباحث عن وظيفة جاهزة بمرتب شهري محدود هو المشكلة، أما الباحث عن عمل فإنه سيجده مثلما وجده شباب وشابات الأعمال الذين أشرت إليهم منذ قليل، ومثل ملايين الأشقاء والأصدقاء الوافدين الذين يملؤون الأسواق والشوارع منذ عقود ويحولون إلى بلدانهم مئات المليارات سنويا. والمشكلة وفق هذا المنظور ليست في ندرة فرص العمل ولكنها في ندرة الوظائف، وبالتالي فإن الخلل يكمن في الثقافة نفسها وهي ثقافة يساهم في تكريسها عدة أطراف ابتداء من الأسرة التي تغذي أولادها بثقافة الوظيفة لا ثقافة العمل ومرورا بالمجتمع والمدرسة والجامعة ومعاهد وكليات التدريب وانتهاء بكثير من الأنظمة، فكل هذه الأطراف تبث ثقافة الوظيفة وتهيئ النشء لها وتسعى إلى تهيئتها كل ما أمكن، ولأن ما أمكن هذه صعبة التوسع حدثت مشكلة البطالة التي مازالت تتفاقم، بينما لو كانت ثقافة العمل هي السائدة لما كان شباب وشابات الأعمال قلة نادرة ولما كان الملف العلاقي الأخضر هو أول ما يجهزه الخريج استعدادا لقرع أبواب الإدارات والشركات بحثا عن وظيفة، ولو كان باحثا عن عمل لأخذ سنارته واتجه يصيد من بحر العمل الضخم، فبلادنا أضخم بحر مليء بالفرص.