نسمع في الآونة الأخيرة من الخارج ومن الداخل أصواتا تنادي بضرورة وضع حد أدنى لسن الزواج للفتاة في المملكة العربية السعودية، بدعوى أن الفتاة التي هي دون الثامنة عشرة لا تطيق الزواج بوجه عام، إلا أن هذه الأصوات ارتأت التجاوز عن العلاقات غير الشرعية بين المراهقين والمتعارف عليها في بعض الدول الغربية المصدر الأصلي لتلك المطالبات، والتي جاهدت بدورها لإضفاء الصبغة القانونية على العلاقات القائمة خارج نطاق الزوجية، وهكذا أصبحت محمية من نظام الدولة. وكان طبيعيا والحالة كذلك محاولتها لدفع الأضرار المترتبة على مثل هذه العلاقات كوجود أولاد سفاح وأمراض وبائية خطيرة كالإيدز والأمراض النفسية التي تصيب عادة الفتاة الحامل سفاحا. ومن المهم هنا بيان أن زواج الفتيات في سن مبكرة كان إلى وقت قريب مقبولا ومطلوبا اجتماعيا في شتى أقطار العالم، بل تجاوز هذا الإقبال ليشمل زواج الأولاد في سن مبكرة، فإلى عهد قريب كان يعد تأخر زواج الابن والابنة إلى العشرين أمراً مستنكراً ومستهجناً اجتماعيا.
وعلى من أراد البحث في هذه القضية التوقف مليا عند أنظمة وقوانين الدول الغربية، فأغلبها لا يرفض زواج المراهقين جملة وتفصيلا بل نظّم هذا الزواج ووضع له شروطا من أهمها موافقة الوالدين على إتمامه، وفي حالات معينة اشترطت موافقة المحكمة، وهذا ما سأحاول الإشارة إليه بصورة موجزة في السطور التالية.
هنا أنقل إليكم رأي شاب سعودي أنهى دراسته للمرحلة الجامعية بتفوق وهو يخطط لإكمال دراسته العليا ويرغب في تأجيل زواجه إلى أن يحقق استقرارا مهنيا، فقد أكد أن من حق من يرى رأيا مخالفا لرأيه في مسألة الزواج المبكر العمل به ما دام فعله لا يتعارض مع ديننا، إلا أنه يرفض استغلال طفولة الفتيات وتزويجهن من رجال في عمر آبائهن طمعا في مال أو مصلحة، وفي الوقت نفسه حرص على بيان أنه يعرف شبابا تزوجوا في سن الثامنة عشرة من فتيات في سن السابعة عشرة بل دون ذلك وحياتهم مستقرة ولله الحمد، واختتم كلامه بقوله "بأي حق نمنع أمثال هؤلاء من تحديد مسار حياتهم، خاصة إذا رغبا في الزواج، ثم لماذا يمكن للشباب في معظم الولايات المتحدة الأمريكية الزواج ما أن يبلغوا 16 ـ 18 ولمن دون ذلك، في حين نسمع في بلادنا أصواتا تطالب بمنع ذلك، علينا أن ندرك أن لكل منا خصائص وقدرات ورغبات مختلفة، ثم إن سعي بعض الشباب للزواج في سن مبكرة له دون شك أسباب معتبرة شرعا وعرفا، علينا جميعا احترامها".
ومع هذا الشاب الحق كل الحق فيما قال إذ يتحتم علينا عند الحديث عن هذه القضية الحساسة، الأخذ بعين الاعتبار الفوارق المتعلقة بالنمو النفسي والبيولوجي للشباب ذكورا وإناثاً، واللذين يختلفان من بلد لآخر، ومن منطقة لأخرى، وما يستتبع ذلك من احتياج كل منهما للزواج المبكر من عدمه.. فالقول بتحديد سن الزواج دون الأخذ بعين الاعتبار تلك الفروق سيترتب عليه الكثير من السلبيات الاجتماعية والتي نحن بغنى عنها بحمد الله.
ومن ناحية أخرى على الأب إدراك أن الفقهاء عندما أجازوا له تزويج ابنته الصغيرة، منعوه من إجبارها أو دفعها لزوجها إلا إذا كانت تطيق الزواج، ولا عبرة هنا للسن، فإذا امتنعت لا يلزم الأب تسليمها لزوجها، فمن المهم أن تكون ناضجة تطيق مستلزمات الزواج عند إلحاقها بزوجها.
وجدير بالملاحظة هنا أن من الشروط المعتبرة عند العلماء لصحة إنكاح الصغيرة: (ألا يزوجها بمن تتضرر بمعاشرته.. كالشيخ الهرم.) ومن الطبيعي ألا نقبل أن تتزوج الفتاة رغما عنها من شيخ هرم، أما أن يتزوج شاب دون 18 من شابة قريبة من عمره، فلا أعتقد أن في ذلك بأسا، خاصة في المناطق الريفية والبادية حيث ينضج فيها الشباب مبكرا ويتحملون ذكورا وإناثا المسؤولية في مقتبل شبابهم المبكر، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
إن حديث ذاك الشاب دفعني للبحث عن معلومات حول السن القانوني للزواج في الولايات المتحدة الأمريكية، فوجدت أن السن الأدنى للزواج يختلف من ولاية إلى أخرى إلا أنه وعلى الأغلب حدد بسن 16 ـ 18 شرط موافقة الأبوين، ومن تلك الولايات أذكر: نيويورك، ألاباما، ألاسكا، أريزونا، كونيتيكت، مقاطعة كولومبيا، مونتانا، نيفادا، نيو جيرسي، نيو مكسيكو، كارولينا، بنسلفانيا، داكوتا الجنوبية، تينيسي، فرجينيا، فيرجينيا الغربية، ويسكونسن. كما أجازوا زواج من هم دون ذلك بموافقة المحكمة، فنيويورك على سبيل المثال اعترفت بزواج من بلغ 14 بموافقة الوالدين والمحكمة، وولاية نيو هامبشير أجازت زواج الذكور البالغين 14 والإناث البالغات 13 بموافقة الوالدين والمحكمة، وهذه القوانين تشابه بشكل يكاد يكون مطابقا لقوانين القارة الأوروبية في تحديد سن الزواج.
وقد لفت نظري من خلال البحث في هذه القضية احترام القوانين الأمريكية والأوروبية لسلطة الأبويين في تنفيذ هذا الزواج، إذ جعلوه شرطا لإتمامه، إلا في حالات استثنائية وضيقة، وهو أمر له إيجابياته في مجتمعات لا تتوقف كثيرا عند متانة العلاقات الأسرية.
وأخيرا لا بد أن أوضح أني لم أرتبط في سن مبكرة، وأطفالي ذكورا وإناثا كذلك، إلا أن اختلافنا كشعب ينتمي لوطن شاسع - ولله الحمد- حق مكفول لنا جميعا ما دام الشرع لم يتعارض معه، فمن غير الإنصاف أن نصادر حقوق الآخرين في تحديد مصيرهم، خاصة مع اعترافنا باختلاف قدراتنا وتطلعاتنا، أليس في الاختلاف رحمة؟