تابعت كغيري من أبناء الوطن بيان وزارة الداخلية المتعلق بالقبض على بعض العناصر الإرهابية وهلاك البعض الآخر منهم، بعد أيام قليلة من القبض على مرتكب فاجعة الشملي المصورة.

لاح لي بعد تلك المتابعة أننا على تخوم مرحلة جديدة من مراحل مواجهة الإرهاب الذي تمثله (داعش)، حيث يبدو أن مرحلة داعش وإن كانت تشترك في بعض الأوجه مع مرحلة (القاعدة) إلا أنها مفارقة لها من عدة زوايا أيضا.

من ذلك أن ملامح خطاب الإرهاب الداعشي مغاير للخطاب القاعدي في بعض الأدبيات، فقد تراجع العزف فيه على وتر المظلومية العالمية، وشعار (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، وحلّ مكان تلك الدندنة على أخبار آخر الزمان وحلم عودة الخلافة الموعودة. في أدبيات مقاربة بشكل ما لحقبة إرهاب (جهيمان) في مطلع القرن الهجري.

من ناحية أخرى فإننا نتذكر أن الاعتماد الأكبر في التجنيد للقاعدة كان يقوم على المخيمات الشبابية والرحيل إلى المعسكرات في الخارج، مع بعض الاعتماد الثانوي على التجنيد الإلكتروني. ولكن الأمر معكوس كما يبدو في طريقة التجنيد الداعشية، إذ يظهر أن التجنيد عبر المواقع الإلكترونية وبرامج التواصل هو الوسيلة الأبرز لاستقطاب الكوادر.

قد يشير اختيار الإرهاب لهذه الاستراتيجية الجديدة إلى شعوره بمغبة الاعتماد على تحرك عناصره في الفضاء المرئي من عالم الواقع، خصوصا بعد تلقيه العديد من الضربات التي عادت عليه بها تلك الطريقة القديمة. ربما تزامن ذلك أيضا مع تنامي القدرات التقنية للإرهاب في الآونة الأخيرة، ولعل هذا لا يقتصر على الصعيد الفني من تخطي الرقابة الإلكترونية ونحو ذلك، بل قد يتعداه إلى اعتماده في هذا العمل على متخصصين في الجذب والتسويق لأفكارهم الضالة بواسطة تلك الدوائر تحديدا، بحيث يتمكنون من تجنيد ذلك النوع من الكوادر الذي لا يثير الارتياب في الغالب. فالصور التي تمّ عرضها للإرهابيين الجدد وما نشر من سيرهم الظاهرة لا تتساوق مع تلك الصور النمطية التي اختزنتها ذاكرتنا لإرهابيي مرحلة القاعدة.

تشير مثل هذه الملاحظات إذا صحت إلى ضرورة اكتساب المرونة في الخطاب التوعوي المضاد لهذه المرحلة الجديدة من الإرهاب، بحيث يسهل استيعاب هذه المستجدات في خطاب معرفي ملائم يحقق الدرجة الكافية من الوقاية الفكرية المساهمة في التصدّي لهذا الخطر إلى جوار الحلول الأمنية العاجلة التي لم تتوان فيها الدولة بحال من الأحوال.

ربما تشكل فاعلية فكرة التجنيد من خلال البرامج التواصلية مفارقة لأول وهلة، ولكن قد يزول أثر هذه المفارقة إذا عرفنا بعض الأمور عن ظروف التجنيد على ضوء النظريات السيكولوجية الحديثة.

يشير (أمارتيا سين) في كتابه (الهوية والعنف) إلى أحد أبرز عوامل النزوع إلى العنف الأيديولوجي، وهو الشعور بتضخم إحدى هويات الفرد على حساب الهويات الأخرى التي تتقاطع داخله، واستنفارها من خلال التركيز على هوية مضادة تعبّر عن كل السمات المعادية لهويته.

لفهم هذا علينا تذكر استحالة وجود إنسان بهوية واحدة لا ينتمي إلى غيرها من الهويات، فالفرد منا تتقاطع فيه عدد من الانتماءات دون أي تناقض أو تعارض في العادة، ولكن ما يجسر إلى التعصب والعنف بعد ذلك هو اجتزاء إحدى تلك الهويات وتضخيمها بحيث يعجز المعتنق لتلك الهوية النظر إلى العالم من خلال هوية أخرى. وهذا بالضبط ما يحدثه الاندماج في جماعة تزعم لرسالتها شيئا من النبل وتكثف في أفرادها الشعور بالغربة، مما يخلق لديهم حالة أشبه بالبارانويا الجماعية أو ما يسمى جنون الارتياب والاضطهاد.

يمكن خلق مثل هذه الحالة بواسطة الجماعات المغلقة داخل الفضاء الإلكتروني بالفاعلية نفسها التي يحدثها الفضاء الواقعي مع ميزة إضافية، وهي سرعة التواصل والتفاعل مع الأحداث. يحدث كثيرا كما نلاحظ أن يتفاعل الفضاء الإلكتروني المفتوح وليس (المغلق) مع بعض الأحداث بطريقة تواصلية تقلص التفاوت في المشاعر إزاءها من خلال العدوى المتسارعة بين المساهمين في التعليق عليها، بل وحتى المتابعين لتلك التعليقات. مثل هذا يجري بصورة أشد كثافة في مجاميع إلكترونية مغلقة يوحدهم الشعور بهاجس مشترك، وقد ينتج عن ذلك ذوبان الشخصية الفردية بشكل كامل بعد فترة كافية من الانضمام لتلك المجاميع والتفاعل معها، لتحتويه هويته الجديدة تماما بعد ذلك فلا يعود ينظر إلى العالم بعين سواها. ولنتنبأ ما شئنا حين ذاك بخصوص المستوى الذي تصل عنده جاهزيته إلى التوجيه والتدمير.

ولا يخفى بأن احتمالية حدوث مثل هذا مع اليافعين أعلى منه في غيرهم، كما أن احتمالية حدوثه مع الشخصيات التي تميل إلى الانطوائية وتعاني من نقص الميل لممارسة الهوايات أعلى منها في سواهم كذلك، ولارتفاع معدلات تلك الاحتمالية أسباب سيكولوجية وعصبية ربما تتاح فرصة التطرق إليها في مقالات قادمة.

حفظ الله بلادنا من مكر المتربصين وشرور الحاقدين.