عندما تكون المشكلة متمثلة في حالة أيديولوجية واستراتيجية في آن واحد، فإنه يصعب حلها وتحتاج إلى مراجعة من الداخل أو إلى تحجيم من الخارج. هذه المعضلة تتمثل في أيديولوجية يتبناها النظام الإيراني ويبدو أنه لن يتنازل عنها بسهولة. يتمثل ذلك في الاعتقاد يقينا بأن إمام الزمان الغائب "المهدي المنتظر" الذي نصب الخميني نفسه نائبا عنه في هذا العصر، وأطلق على نفسه "نائب الإمام" و"الولي الفقيه" وسار على نهجه بعد ذلك علي خامنئي، لن يعود من غيبته حتى تسيل الدماء في مكة ومنى ويتم تلطيخ جدران الكعبة بالدماء. هذا ليس استقراء أو تجنيا أو تهكما، بل حقيقة ماثلة لا يمكن إنكارها.
معظمنا شاهد التسجيل المتداول لحسن رحيم پور ازغندي مستشار المرشد الأعلى، وأحد أبرز منظري التيار الأصولي الذي يدير إيران.
يقول ازغندي بالحرف الواحد: "لا تتحقق العدالة في العالم إلا من خلال أمرين: العلق "الدم" بحيث يكثر القتل حتى تسيل الدماء، والجهد أي العمل على تحقق الهدف".
لكن، هنا قد يتساءل البعض عن المكان والزمان لانطلاقة تحقق العدالة المزعومة. يجيب مستشار خامنئي بالقول: "لا بد أن يبدأ التحرك من مكة، فنغرق في العلق والعرق، من خلال تحرير الحجاز ومن ثم العراق". مجددا، يبرز سؤال آخر حول من يقوم بهذه المهمة. المستشار والمنظر ازغندي يملك الإجابة أيضا، إذ يؤكد أن: "الإيرانيين يشكلون الأغلبية" في تحقيق ذلك.
ربما يكون مستشار خامنئي قاده الحماس الثوري والتعبوي إلى التخلي عن "التقية السياسية" كما حدث مع علي يونسي مستشار الرئيس روحاني عندما قال، إن بلاده بصدد إعادة تشكيل الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد.
عموما، لا يهمنا ذلك كثيرا، بل الأهم البحث عن الأدلة والشواهد الداعمة لسياسة النظام الإيراني هذه وهي لا تكاد تحصى. فمنذ انتصار الثورة وإيران تعمل على إثارة البلبلة في موسم الحج، وكان الخميني يقول: "إن الجانب السياسي في الحج أهم من الجانب الديني والروحي". ولهذا استمر النظام الإيراني منذ ذلك الحين في تعكير صفو الحج، ومضايقة ضيوف الرحمن سواء في المدينة المنورة، أو مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
من جانب آخر، كان الخميني يجتمع بمسؤولي حملات الحج الإيرانية قبل توجههم إلى مكة ليقدم لهم التعليمات، ويحثهم على إطاعة توجيهات قادة الحملات وتنفيذ أوامرهم، وهذه حقيقة تدعمها كثير من الوثائق والمصادر الإيرانية أيضا.
علاوة على ذلك، كان رؤساء حملات الحج الإيرانية خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية يوجهون الحجاج -وأغلبهم من الحرس الثوري- نحو العدائية تجاه رجال الأمن في السعودية، ويقولون لهم إن رجال الأمن هؤلاء هم الذين يدعمون صدام حسين ويقتلون أطفالكم ويدمرون منازلكم.
من المعلوم أن نتيجة كل هذا الشحن الأيديولوجي برزت عام 1986 عندما أحبطت الجمارك السعودية تهريب قرابة 150 كجم من متفجرات من نوع "C4" كانت كفيلة بنسف منطقة الحرم المكي كاملة، وتم تسجيل اعترافات الحجاج الإيرانيين حينها، ولكن أجهزة الأمن السعودية لم تعلن ذلك في حينه خشية حدوث أي ارتباك لدى ضيوف الرحمن. لم ترعوِ إيران وأصرت على تهديد أمن الحجاج وتعكير صفو هذا النسك مجددا، فكانت كارثة عام 1987 التي أودت بحياة 400 شخص من بينهم كثير من رجال الأمن السعوديين وحجاج من دول مختلفة.
بعد تلك الحادثة توقفت إيران عن إرسال حجاجها قرابة ثلاثة أعوام، ولكن لأن إراقة الدماء في مكة ترتكز على ثابت أيديولوجي وثوري، كلفت طهران أتباعها وأذرعها ليقوموا بتنفيذ المهمة نيابة عنها، فكانت حادثة التفجيرات بمنطقة الحرم، وحادثة نفق المعيصم الشهيرة وغيرهما كثير.
وأخيرا، سبق حج هذا العام تهديدات إيرانية بأنه سيكون موسم حج مختلفا، وكرر الحوثي وأمين حزب الله اللبناني التهديدات ذاتها؛ ما يجعلنا نعيد النظر كثيرا في قراءة مشهد التدافع الذي حدث يوم النحر في مشعر منى، وأخذ جميع الاحتمالات في الحسبان، ومع ذلك نحن في انتظار النتائج الرسمية للتحقيق في الحادثة.
ختاما، على إيران التخلي عن هذا الحشد المذهبي والسياسي والإعلامي ضد المملكة، وتشكيكها في قدرة السعودية على إدارة الحرمين الشريفين، فالتاريخ والعالم كفيلان بالرد على هذه المزاعم الإيرانية، والشواهد التاريخية تؤكد أن إيران ما انفكت تسعى إلى إثارة الفوضى في مواسم الحج منذ أكثر من ثلاثة عقود.
من جانب آخر، نجد أن إيران لم تطالب بتدويل مسجد الأقصى حتى يتم تحرير الأراضي الفلسطينية كاملة، كما أنها لم تطالب بتدويل النجف وكربلاء بعد فاجعة جسر الأئمة، ومقتل أكثر من ألف من بين بضعة آلاف وليس ملايين كما هو الحال في موسم الحج. إيران مندفعة سياسيا وإعلاميا وأيديولوجيا، وربما يكون هذا الاندفاع مجرد هروب إلى الأمام قبل ظهور نتائج التحقيقات، وكشف مزيد من نشاطها الإرهابي أمام العالم.