يزدحم الفضاء، بالصاعد الجديد من البث التلفزيوني، كل يوم حتى لم يعد المشاهد قادراً على ملاحقة ومتابعة "تناسل" القنوات وتوالد برامجها في الأثير بعد أن كان يضجر من "الوجبة" الثابتة المنزوعة الدسم، الماسخة الطعم، التي كان يضع عناصرها رقيب يعامل المشاهدين كأطفال قاصري العقول وفاسدي الطبائع لا يحبون "الطعام الرسمي" الذي يطبخ في أستديوهات النظرة الواحدة.

وهذا "الانفجار" الذي يلاحق الناس في كل مكان ويطاردهم في مناماتهم ويقتحم عليهم خصوصياتهم، حول الفضاء إلى "مخططات استثمارية" وسوق مفتوحة للجميع، كل يقدم فيها ما يريد، ويلهث خلف تلبية رغبات وأهواء المشاهدين. ولم يعد استغلال الأقمار الاصطناعية وحق البث عليها حكرا على أصحاب الملايين المترفين، عشاق الطرب ومشجعي الرقص الشرقي والمفتونين باستعراض المساحات المتراجعة عنها الملابس من أجساد أهل اللهو والترفيه. فقد دخل "السوق" تجار جدد بعضهم يبيع الوهم في سوق البطالة ومواسم نقص الذمم وقسوة الحياة وبعضهم يعرض "مراهم" لتسكين أوضاع الجهل والضياع فترحل بالمكتئبين من واقع الحياة المرير إلى سعادة اللحظات العابرة.. كما دخل السوق من يعتقد أنه "مسؤول" عن إحياء ضمائر الناس وتقويم معوج سلوكهم وإصلاح فسادهم ومن يرى أنه الأوحد الذي يملك الصواب وغيره في ضلال بعيد.. وفي الآونة الأخيرة تفجرت قنوات "الصديد" الطائفي ومحطات تصفية الحسابات وإثارة النعرات وتجديد المواجع، ونبش قبر التاريخ لاستخراج جثت الخلافات وكأن "حفاري القبور" هؤلاء لا يكفيهم ما تمر به المنطقة من ضعف وشتات وتمزق.

وتثير هذه الظاهرة أسئلة من نوع: لماذا يسهل على أصحاب "البضائع" المزيفة، في هذه المنطقة من العالم، غش الكثيرين واستدراجهم إلى دعواتهم؟ ولماذا ينجح تجار الخرافة وبائعو الدجل ومروجو الغيبيات والتدين المنقوص وأصحاب المشاريع الخفية في استغفال الكثيرين واستهوائهم؟. أسئلة قد تحيل إلى مظنة فشل الأنظمة السياسية وتخبط مشاريع التنمية الشاملة في المنطقة العربية، فلا برامج التعليم نجحت في ترقية العقول ولا خطاب الوعظ الديني، رغم كثافته، تمكن من تنقية عقائد الناس وتمتين رباطهم بالدين الحق وترسيخ الإيمان الذي يحميهم من الاستدراج إلى ساحات الوهم. ومن المنطقي القول إن فشل مشاريع التنمية الاقتصادية والبشرية هو الذي يدفع الناس إلى "واحات الإحلام" حيث ينتظرهم تجار الخرافة ليستثمروا إحباطاتهم وقلقهم وقابلية توترهم للانفجار. والتدابير الإدارية التي قد تتخذ ضد قنوات الدجل لن تحل المشكلة، رغم أهميتها، لكن الذي يستل جذور الداء الأساس هو التوجه نحو الإصلاح وتنمية حياة الناس وإشراكهم في إدارة شؤون حياتهم وصيانة كرامتهم وتطوير مناهج تعليمهم وربطهم بثقافة العصر وتحسين أوضاع المؤسسات العدلية واستثمار ثروات الأوطان بصورة عادلة تنقذ ملايين الفقراء. فالمسألة ليست قفل قناة أو عشر فهذه معالجة للعرض مع بقاء المرض. المسار الصحيح يبدأ من خطة لتقليل الذين يعيشون في دائرة الحيرة والإحباط لأن هؤلاء هم المشكلة وإقبالهم على الخرافات وخطابات الشحن الطائفي هي مظاهر لأمراض مزمنة.

وفي الأسابيع الماضية ثارت قضية إيقاف بعض القنوات الدينية على القمر الصناعي "نايل سات" واختلف المهتمون حول أسباب الإيقاف فذهب البعض إلى أن العامل السياسي هو الذي يحرك آلة المنع وذهب البعض الآخر إلى القول إن الخوف من تعاظم تيار السلفية وزيادة تأثيره على المزاج المصري المعتدل كان وراء هذه الخطوة، وهناك من يرى غير ذلك لكن الجميع مقتنع بأن أسباب المنع لا تعود إلى إجراءات إدارية تتعلق بعدم وفاء المحطات الموقوفة بما عليها من حقوق. وبغض النظر عن الأسباب الداعية إلى الإيقاف فالذي يلفت النظر هو تكاثر القنوات السياسية المتدثرة بثياب الدين ودعوى نشر العلم والدفاع عن "حياض" الدين والرأي الصحيح.. وفي "ظلام" هذا التوجس واستنفار الأنصار وتهييجهم ضد الآخرين وجدت بعض القنوات التلفزيونية الفقيرة مهنياً والسطحية تناولاً من يقف وراءها ويدعمها اعتقاداً منه أنه يفعل الخير!. ولا شك في أن هذا "اللغط" ليس بيئة صالحة للمناقشة الهادئة التي تبحث عن الحق وترجو من الحوار الوصول إلى الصواب، ولهذا سيكون من ضياع الوقت وهدر الطاقة أن يفرغ الإنسان جهده في سبيل إقناع الأكثرية من أصحاب "التحزب" لهذه القنوات أن ما هم عليه لا يؤدي إلى نصرة حق أو دفع ضلال بل يزيد من التشويش على الناس وإدخالهم في سحب الشحناء التي لا تمطر إلا المزيد من الشقاء.

والأفضل من تضييع الوقت في مناقشة أصحاب محطات الوهم والحقد وإشاعة الفتن أن نناقش من لديهم القدرة على التقليل من أضرار هذا "البحث العشوائي".. ويأتي في مقدمة الذين يحسن الحوار معهم في هذا الشأن الشركات الناقلة للأقمار الصناعية.. وهؤلاء المناقشة معهم تتم على محاور تدور حول الأنظمة المعمول بها في المدن الإعلامية ومدى مراعاتها لاحتياجات المجتمع وقدرتها على مقاومة الإغراء والضغط المالي في ظل ثقافة اقتصاديات السوق وحمى المنافسة. ثم التساؤل عن الأنظمة الإعلامية التي تطبقها وزارات الإعلام في المنطقة العربية على قنواتها الرسمية دون أن تنسحب تلك الأنظمة على القنوات التي تبث من أرض الدولة نفسها، ثم يأتي مشروع ميثاق الشرف الذي يطالب به البعض ومدى حضوره في خريطة برامج التلفزيونات الخاصة.. هذه الأطراف هي التي يمكن أن يدور معها حوار ونقاش قد يفضي إلى "شيء".. فما هي مسؤولية المدن الإعلامية وأنظمتها عن التسهيل لإطلاق قنوات تهدف إلى جمع المال بتسويق الخرافات والدجل وقنوات تمولها جهات خفية لتبني خطابات تشحن المشاعر ضد المختلف وتبث الكراهية بين شعوب المنطقة؟! وما هي إمكانية مساهمة القوانين المعمول بها في الدول العربية، في ضبط فوضى هذه السوق، دون أن تضعف الرأي العام وتضيق مساحة حرية التعبير؟. أسئلة تحتاج إجابات من المشاركين لكنها الإجابات التي لا تعود بنا إلى المربع الأول يوم كانت وزارات الإعلام لا ترى للناس إلا ما ترى هي ولا تقدم للعقل والعاطفة إلا ما يرتضيه وما يستوعبه الرقيب القابع خلف مكتبه، سيكون من الخطر ـ ونحن في سبيل دفع أضرار الانفلات الإعلامي ـ أن نكبل خطوات المجتمع بالقيود ونضع في طريقه السدود، فلن يكون في صالح تطور المجتمعات وتقدمها تقليص مساحة حرية الرأي بحجة حماية الدين أو الأخلاق أو القيم، فالدين الحق والأخلاق الأصيلة والقيم الفاضلة لا تزدهر وتينع وتسمو إلا في ظل الحريات، حتى إن كان للحريات أضرار فإن ثمراتها أطيب وأعذب من "مخرجات" الكبت وتكميم الأفواه.