في هذه الأيام تختلف برامج الدراسات العليا في الجامعات المحلية والإقليمية والعالمية عما كانت عليه في القرن الماضي اختلافا كبيرا سواء في الجوانب الكمية أو النوعية. فالمتتبع لتطور برامج الدراسات العليا يجد أنها في كثير من مؤسسات التعليم العالي بشكل عام تغيرت أهدافها التي حافظت عليها، ودافعت عنها لسنوات طويلة والمتمثلة في تقديم برامج نوعية متطورة، والاختيار الدقيق للنوعية التي تلتحق بهذه البرامج، أما في الوقت الحاضر فكثير من برامج الدراسات العليا في أغلب الجامعات مختلفة عن السابق وتركز على الكم أكثر من النوع، وهذا خلل في منظومة هذه المؤسسات سواء من الجوانب الأكاديمية، أو الإدارية.
ومن المعروف أن الجامعات العالمية المرموقة تتحفظ على التوسع في برامج الدراسات العليا بشكل كبير، ولا يتم فتح أي برنامج إلا عندما تكون الحاجة إليه ملحة لقيام مثل هذا البرنامج، وعندما تكون الإمكانات البشرية، والمادية التي يحتاجها هذا البرنامج متوافرة، وجميع الشروط الأخرى لفتح البرنامج متحققة، وفي حالة فتح هذه البرامج يتم اختيار الملتحقين بها بعناية، ولا يلتحق بها إلا من تتوافر فيه شروط القبول المحددة من دون أي استثناءات، وممن يتوقع أن يكون وجودهم في البرامج إضافة علمية لتحقيق أهداف الأقسام والبرامج، كما أن الصورة للأبعاد المختلفة التي تحققها البرامج للقسم أو الكلية أو الجامعة التي ينتمي إليها واضحة لجميع العاملين بها والملتحقين بها والمستفيدين منها خارج الجامعة، وللبدء في أي برنامج تقوم هذه الجامعات بدراسة جدوى لهذه البرامج، وما تضيفه إلى الجهة التي تتبعها، وإمكانية استمرارها بالمستويات المخطط لها، وما تقدمه من خدمة للمجتمع وغير ذلك من العوامل، ولذلك نجد أن كثيرا من هذا النوع من البرامج عليه إقبال كبير من الطلاب من أنحاء العالم كافة، وله سمعة أكاديمية مرتفعة، وله ترتيب أكاديمي عالٍ، حسب التقارير التي تصدرها الجهات المختصة عن تقييم وترتيب برامج الدراسات العليا.
وهنا أتساءل دائما عن عدم ظهور برامجنا الأكاديمية في الدراسات العليا ضمن الترتيب العالمي للبرامج المناظرة. وبالرغم من الإقبال الكبير على هذه البرامج إلا أن الأعداد التي تلتحق بها محدودة جدا، وتتوافق مع إمكانات الأقسام الأكاديمية، وبما يضمن النوعية والجودة، وتسعى هذه البرامج إلى أن تكون متميزة، ومتابعة لكل ما هو جديد في مجالاتها وتعمل على تطوير خططها الأكاديمية بما يتوافق مع العصر، كما تسعى إلى استقطاب أعضاء هيئة تدريس متميزين للمشاركة في تنفيذها، والإشراف على رسائل طلاب الدراسات العليا، والحصول على دعم مالي للأبحاث التي يقوم بها طلاب الدراسات العليا من جهات خارجية.
وبرامج الدراسات العليا في الجامعات السعودية التي بدأت في القرن الماضي كانت بدايتها قوية جدا، وكانت تراعي المعايير الأكاديمية بدقة في تقديم هذه البرامج، ويشرف عليها أكاديميون من ذوي الخبرات سواء من السعوديين أو المتعاقدين، واستمر الحال على هذا النهج لفترة من الزمن، ولا يلتحق بهذه البرامج إلا من لديه الرغبة الحقيقية في مواصلة دراسته العليا، ومن لديه طموح عال في البحث والتقصي في مجال تخصصه، أما في السنوات الأخيرة فكانت هناك طفرة هائلة في برامج الدراسات العليا سواء العالمي منها أو المحلي، وكان هناك توسع غير مدروس بشكل جيد في أغلب الجامعات في برامج الدراسات العليا، فنجد أن بعض الجامعات العالمية المرموقة بدأت في استحداث برامج موجهة للطلاب الأجانب بالدرجة الأولى، وبدأ التركيز على الجوانب الكمية أكثر من النوعية، كما أن هناك تنازلا عن بعض شروط الالتحاق ببعض البرامج بهدف استقطاب الطلاب الأجانب في هذه البرامج، وقد يعود السبب في ذلك إلى الركود الاقتصادي الذي مرت وتمر به كثير من الدول في هذه الأيام، وبذلك تشكل هذه البرامج رافدا ماليا لهذه الجامعات، وهنا خرجت أهداف برامج الدراسات العليا عن مسارها الصحيح.
أما على المستوى المحلي فقد شهدت برامج الدراسات العليا توسعا كبيرا في البرامج، خاصة في الجامعات الحديثة، وحقيقة الأمر أن كثيرا منها لا تتعدى أن يكون نسخة كربونية من بعض، أو نسخة مطورة للبعض الآخر، وكان هناك توسع في قبول الطلاب فبعض الجامعات قبلت طلاب دراسات عليا أكثر من إمكاناتها سواء المادية، أو البشرية، وأدى ذلك إلى تأثر مدخلات وعمليات ومخرجات هذه البرامج، وقد يكون هذا التوسع نتيجة للضغوط التي تعاني منها الجامعات بشأن طلبات الالتحاق من المجتمع، وهنا أرى أن برامج الدراسات العليا يجب أن تكون موجهة لمن لديه طموح، ورغبة في مواصلة تعليمه العالي؛ لأن واقع كثير من الملتحقين بهذه البرامج أنهم لا يسعون إلى التعلم بهدف التعلم والتحصيل، والتزود بالمعارف والمهارات، والاتجاهات والقيم بقدر ما هم يسعون إلى الحصول على الشهادة لتحسين وضعهم الوظيفي، أو للوجاهة الاجتماعية.
لذا أعتقد أن كثيرا من برامجنا في أغلب جامعاتنا بحاجة إلى إعادة نظر في أهدافها وخططها الأكاديمية، وسياسات الالتحاق بها، وإجراءات تنفيذها، واختيار من يقوم بالتدريس فيها، بدلا من تركها تسير بوضعها الحالي الذي قد لا يختلف كثيرا عن برامج الدراسات الجامعية كثيرا، ولا تراعي الجودة في مكونات العملية التعليمية كافة في هذه البرامج.