نسمع ونقرأ عن العنصرية بشكل يومي في بعض المجتمعات، بينما لا نكاد نسمع عنها في مجتمعات أخرى. هل نستنتج من هذا أن العنصرية موجودة في المجتمعات الأولى وغير موجودة في المجتمعات الثانية؟

هذا ما يفعله كثيرون، لكني أراه استنتاجا غير صحيح، وأتمنى أن أنجح في توضيح أسبابي في هذا المقال.

الاستنتاج الصحيح في رأيي من الصورة السابقة هو التالي: العنصرية موجودة في المجتمعات الأولى "كمشكلة" ولكنها غير موجودة في المجتمعات الأخرى "كمشكلة".

الذي يجعل العنصرية في مجتمع ما مشكلة ويجعلها في مجتمع آخر عكس ذلك، هو استقرار القناعة بفكرة المساواة. أي فكرة أن كل البشر سواسية من ناحية المبدأ في الحقوق والواجبات. هذه الفكرة حديثة في التاريخ البشري، ولا تزال غريبة ومستهجنة في سياقات ثقافية مختلفة. لكن لإيضاح الفكرة الأساسية هنا يمكننا العودة إلى التاريخ لتأمل العلاقة بين وجود العنصرية ووجودها كمشكلة.

في فترات طويلة من تاريخ البشرية، لم تنته إلا قريبا، كان الرق جزءا من الحياة العامة.

الرق هنا يعني معاملة مجموعة من البشر كسلع تباع وتشترى، وتنتقل عبوديتهم بالوراثة إلى أطفالهم. هذا الإنسان الرقيق لا يتمتع إلا بحقوق شبيهة بحقوق الدواب المستثمرة لأغراض اقتصادية. هذا المستوى من التعامل يعبّر عن واحدة من أكثر حالات العنصرية في تاريخ البشرية. بمعنى أن التمييز ضد الإنسان الرقيق وصل إلى مستويات حادة إلى درجة سلبه حق التحكم في نفسه وإعطاء هذا الحق لغيره.

الملاحظ أيضا أن هذه الحالة في تلك العصور لم تظهر كمشكلة يتحدث عنها الجميع، بل بقيت وضعا قائما متعارفا عليه ضمن الشروط الاجتماعية. في هذه الحالة نحن أمام مجتمع عنصري ولكن العنصرية ليست جزءا من مشاكله التي يتحدث عنها.

في المقابل، نجد اليوم في المجتمعات المعاصرة التي واجهت واعترفت بمشاكل التمييز ضد السود، أن قضايا التمييز العنصري هي إحدى القضايا الأساسية التي تشغل بال الإعلام والأكاديميا والجهات التشريعية والقضائية.

الملاحظة ذاتها على الرق يمكن ملاحظتها على أشكال أخرى من التمييز ضد البشر كالتمييز ضد المرأة أو التمييز لأسباب دينية. هذه الأشكال من العنصرية كانت جزءا من التركيبة المتعارف عليها والمقبولة بشكل كبير في مجتمعات ما، ولكنها اليوم أصبحت مشاكل تتصدر الجدل العمومي. بهذا يمكن أن نقول إن عدم الحديث عن العنصرية في مجتمع ما لا يعني عدم وجودها، بل يعني عدم وجودها كمشكلة لدى القوى الفاعلة في تلك المجتمعات.

الآن، يمكننا الحديث عن سبب تحول العنصرية من جزء متعارف عليه في النظام الاجتماعي إلى مشكلة يجب حلها ومعنى هذا التحول.

تحول العنصرية من جزء متعارف عليه إلى مشكلة يعني أن المجتمع مر بتحولات فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية، جعلت منه ينظر إلى أفراده بطريقة مختلفة. أوضح التعبيرات عن هذه التحولات هو تحول مبدأ المساواة بين البشر إلى جزء أساس من الثقافة العامة، وإلى مبدأ حاكم على العقد الاجتماعي الذي يربط أفراد المجتمع ببعضهم، وتتم ترجمته عمليا إلى قوانين تحكم عمل المؤسسات والجهات القضائية.

المساواة هنا تعني أن عوامل العرق والجنس والمعتقد لا تؤثر على حقوق وواجبات الإنسان. في هذا الفضاء يشعر الأفراد بالأمان مما يعطيهم القوة في وجه التمييز والعنصرية. بمعنى أن هذا الفضاء يعطي الفرد قوة تدعم شعوره بالكرامة ليصرخ في وجه العنصري رافضا عنصريته. في المجتمعات التي لا تزال العنصرية فيها جزءا من الواقع المتعارف عليه لا يتوفر هذا الأمان، ويكون أمام الفرد المميز ضده مغامرة محفوفة بالمخاطر لو حاول الاعتراض على العنصرية. 

تحوّل العنصرية إلى مشكلة يعني أنها أصبحت في طريقها إلى الحل. المشاكل تعني الوعي بوجود إعاقة أمام تحقيق هدف معين. تحول العنصرية إلى مشكلة، يعني أن الأهداف الكبرى كالتطور والتقدم الاقتصادي وغيرها، لم يعد مقبولا أن تبرر العنصرية أو أن تمر خلالها.

تحول العنصرية إلى مشكلة يعني تحولا كبيرا في المنطق الأخلاقي في المجتمع والمؤسسات. العنصرية كانت دائما وسيلة لتحقيق أغراض الأقوى على حساب الأضعف. تحولها إلى مشكلة يعني أن هذا المنطق تم رفضه.

تحول العنصرية إلى مشكلة لا يعني نهايتها، بل يعني تحقق الأمل في نهايتها. في المقابل، العنصرية المتعارف عليها تعمل على إعادة إنتاج العنصرية. تعني أن آلة العنصرية الاجتماعية لا تواجه أي عقبات، ما يعني أنها لا تجد مبررات لتغيير مسارها.

فضح العنصرية وإعلانها في الفضاء العام يشبه الإعلان عن وجود الوباء. دون إعلان الوباء وتحويله إلى أزمة عامة فإنه لا أمل في علاجه.

يمكننا في الأخير القول، إن إعلان العنصرية والحديث عنها وتحويلها إلى مشكلة خصوصا من منظور من يعانون منها بشكل معين، يعني الانتصار على شرط العنصرية الأول وهو حجب صوت الآخرين. حجب مشاركتهم في الفضاء العام. حجب مشاكلهم من تصدّر المشاكل الأهم في المجتمع. حجب رؤية الصورة البشعة للعنصرية.

أمل العنصري الأكبر هو أن يجعل العنصرية طبيعية، أن يبررها، أن يدخلها بأي شكل من الأشكال في أفق المستحيل تغييره.

لذا، فإن تحويل العنصرية إلى مشكلة هو في حد ذاته انتصار عليها وخروج من أفقها.