الانفلات نقيض النظام، وإحدى سماته تضعضع الدولة الوطنية، وغياب للأطر الناظمة للعلاقات الدولية. والنظام الدولي، يعني حضور الأطر التي تنظم العلاقات بين الدول. هذه الأطر في جانب منها حاجة إنسانية لسيادة السلم العالمي، وهي من جانب آخر، تعكس طبيعة ومستوى التوازنات، في القوة الدولية.
في العقد الثاني من القرن المنصرم، شهدت البشرية، اندلاع أول حرب كونية، كانت أركانها الرئيسة القوى الاستعمارية القديمة، وانتهت الحرب بهزيمة ألمانيا والقضاء على السلطنة العثمانية. وبدأت إرهاصات تشكل نظاما دوليا جديدا، عبرت عنه مبادئ عصبة الأمم، وعلى قاعدة الاعتراف بسيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
ألغت عصبة الأمم، مبدأ حق الفتح، الذي ساد منذ أن عرفت البشرية الاجتماع الإنساني.
وبموجب ذلك المبدأ كانت الإمبراطوريات تتوسع وتتقلص تبعا لقدراتها العسكرية والاقتصادية. وبموجب هذا المبدأ أيضا نشأت وانهارت الامبراطوريات القديمة.
طرح الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون، بعد الحرب العالية الأولى، مبادئه الأربعة عشر التي عرفت بإعلان ويلسون لحقوق الإنسان، وتضمنت حق شعوب الأرض في الاستقلال وتقرير المصير. وقد عنى ذلك توجها إنسانيا جديدا، نحو إنهاء حقبة الاستعمار.
واستعيض عن التعبير الفاقع للاستعمار، بمصطلحات جديدة، كان الأكثر حضورا بينها الوصاية والحماية والانتداب. وقد عنت جميعا استمرار الهيمنة الاستعمارية على دول العالم الثالث، بمسميات وآليات جديدة. ولكنها حملت في الوقت ذاته مؤشرات على اقتراب نهاية الاستعمار التقليدي، وبروز الدولة الوطنية الحديثة.
لكن حقبة ما بين الحربين، لم تسمح بتشكل نظام دولي جديد. فالاتفاقيات التي وقعها المنتصرون بعد الحرب، والمعاهدات التي فرضت على المهزومين، كانت في حقيقتها تعبير عن مصالح قوى شاخت، وكان اندحارها عن العالم الثالث مسألة وقت. وافتقرت في نصوصها إلى روح العدل.
في المنطقة العربية، كان نصيبنا من تداعي آثار تلك الحرب كبيرا. فقد بقي المغرب العربي، بأسره محتلا من دول إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا. لكن الانفلات الدولي الذي ساد بين الحربين، وعدم توصل القوى الفتية التي بزغت بعد نهاية الحرب، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى اتفاقيات بينهما، أسهم في إشعال حروب التحرير الوطنية، على مستوى القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
واقع الحال، أن نتائج الحرب العالمية الثانية، هي التي حددت شكل النظام الدولي الجديد الذي ساد في القرن العشرين، وانتهى من غير رصاصة رحمة، في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، إثر سقوط حائط برلين.
معالم النظام الدولي، أمست ملامحه أكثر وضوحا بعد توقيع اتفاقية يالطة. ولكن الترجمة الحقيقية، لتوزيع موازين القوى، لم تبرز إلا بعد التحاق الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة في امتلاك القوة النووية. وكانت أبرز ملامح هذا النظام، هو استناده على الثنائية القطبية، بين مالكي أكبر قوة تدميرية على وجه الكرة الأرضية.
كانت أهم ملامح الخمسينات والستينات، من القرن المنصرم، هي اشتعال الحرب الباردة، وتعزيز كل من القوتين العظميين، توسيع دائرة نفوذهما السياسي والأيديولوجي والاقتصادي، وتشكيل مجموعة من الأحلاف العسكرية، لصالحهما، كان الأبرز بينها حلف الناتو وحلف وارسو. أما الملمح الآخر، فهو نأي القوتين عن المواجهة العسكرية مع بعضهما البعض.
لقد غدت المواجهة العسكرية بين الامبراطوريتين، السوفيتية والأميركية مستحيلة، لأن حدوث ذلك سيعني فناء محققا للبشرية. لكن ذلك لم يكن يعني إقفال فصل هذه المواجهة، بل تغيير آلياتها وأنماطها وأشكالها.
نحت حروب ما بعد اشتعال الحرب الباردة، نحو شكلين: حروب العصابات والحروب التقليدية، وجميعها تشن بالوكالة، نيابة عن السوفيت أو الأميركان. والأمثلة في هذا السياق كثيرة، لعل أهمها دور الكيان الصهيوني، في حراسة المصالح الغربية، وبالمثل دارت حروب من النمطين، في كوريا وفيتنام والجزائر، وكوبا وأنجولا، وعدد آخر من الدول، وقفت واحدة من القوى الكبرى، خلفها تقدم لها الدعم السياسي والعسكري والمال.
إثر السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي، تربع اليانكي الأميركي، على عرش الهيمنة الدولية، وكانت أولى نتائج ذلك هو سيادة الأحادية القطبية، وغياب التوافقات الدولية. بمعنى آخر، سقط نظام دولي، ولم يتشكل آخر، حتى يومنا هذا.
وخلال أكثر من ثلاثة عقود، سقط في عدد من بقاع العالم، مفهوم السيادة، وضعف دور الدولة الوطنية، وسنت القوى الكبرى المتفردة، من طرف واحد قوانين جديدة فرضتها على المجتمع الدولي.
من إفرازات سقوط النظام الدولي، وغياب الأطر الناظمة للعلاقات الدولية، بروز تنظيمات الإرهاب والتطرف، وعلى رأسها تنظيم القاعدة.
اتخذ تغول تنظيمات الإرهاب في السنوات الخمس الأخيرة شكلا دراماتيكيا مرعبا. وليس من تفسير لهذه الظاهرة، سوى الانفلات الدولي، وغياب جوهر المبادئ التي صيغت في عصبة الأمم، ولاحقا في هيئة الأمم المتحدة. وليس من شك أن هذا الانفلات هو الذي أودى بالكيانات الوطنية، في الصومال والعراق وليبيا وسورية واليمن، وهو الذي تسبب في تفتيت السودان، وانتشار نشاط تنظيم داعش في عدد من الأقطار العربية.
لن تتمكن شعوب وحكومات المنطقة من دحر الإرهاب، إلا بوضع نهاية للانفلات الدولي، وإعادة الاعتبار للأطر الناظمة للعلاقات الدولية، وحماية الكيانات الوطنية.