حوادث عدة يقوم بها مجرمو داعش بين الفينة والأخرى تهز الضمير المسلم الحي، من قتل أحدهم لأبيه وآخر لخاله وثالث لابن عمه، وكنت كتبت في مقال سابق تفسيرا للنفسية الداعشية، وكيف يمكن تجنيدها لتصبح بهذه الوحشية والقذارة في آن واحد، وفي هذا المقال أقف مع حديث للنبي، صلى الله عليه وسلم، يمكن أن نستفيد منه كثيرا في جلاء حقيقة هذه النفوس، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبى سعيد الخدري قال: بعث عليٌ وهو في اليمن إلى النبي، صلى الله عليه وسلم ،بذُهَيبة في تربتها، فقسمها بين الأقرع بن حابس، وبين عيينة بن بدر، وبين علقمة بن علاثة، وبين زيد الخيل، فتغضبت قريش والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا! قال: "إنما أتألفهم". فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كث اللحية، مشرف الوجنتين، محلوق الرأس، فقال: "يا محمد اتق الله..". فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "فمن يطيع الله إذا عصيته! فيأمنني على أهل الأرض، ولا تأمنوني". فسأل رجل من القوم قَتْلَه -أراه خالد بن الوليد- فمنعه النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما ولّى، قال النبي، صلى الله عليه وسلم، "إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".

وفي هذا الحديث فوائد منها: سماحة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فها هم بعض الصحابة من قريش والأنصار يُراجعونه في قسمته فيبين لهم الحكمة منها، وهي تأليف هؤلاء الصناديد الذين دخلوا في الإسلام، وهذا مما يستفيد منه من ابتلاهم الله تعالى بالمسؤوليات الجسام عن أموال المسلمين، وأن بيانهم مصارفها مما تطمئن به نفوس الرعية.

في قول الرجل: يا محمد اتق الله، شاهد على أن الغلو في الدين وحمل الفكر المتطرف يُبعِد صاحبه عن محاسن الآداب ومكارم الأخلاق، وتوقير أهل العلم وإنزال الناس منازلهم، فها هو أولهم ظهورا في الإسلام يُجرد كلامه في مخاطبة نبي الله من وصفه العظيم الذي وصفه به ربه عز وجل، فيقول له يا محمد، كحال خطاب الكفار والجاهل له، صلى الله عليه وسلم، فانعدام التوقير للعلماء وذوي الهيئات أمر لا يستغرب منهم بل هو طبيعة لا تكاد تنفك عن أصحاب هذا الفكر الشرير.

وقول الرسول، صلى الله عليه وسلم، في وصفهم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" يؤكد ما يعاني منه الخوارج من البلادة في فهم النصوص القرآنية والتأثر بها، فالقرآن لا يجاوز حناجرهم، فرغم قراءتهم له وربما حفظ كثيرين منهم إياه، إلا أنهم لا يتأثرون بما فيه ولا يفهمونه على وجهه الذي ينبغي.

ولعلنا في هذه النقطة بالذات نقف عند استدلال المنتسبين إلى الدواعش على جرائمهم من قتل الآباء والإخوان والعشيرة من العاملين في القطاعات العسكرية في بلاد التوحيد المملكة العربية السعودية بقوله تعالى: "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم"، وكما يعلم كل من يفهم اللسان العربي فالآية ليس فيها ذكر للقتل، خالية من مجرد ذكر القتل ولا دلالة فيها على إباحته، وإنما تضمنت الإخبار عن صفة من يؤمنون بالله واليوم الآخر وهي أنهم لا يوادون من شاق?ّ الله ورسوله وعاداهما وعصاهما، فليس في الآية ذكر للقتل ومع ذلك تجد سفهاء الأحلام لا يكفون عن ترديدها لتبرير عدوانهم على أهليهم، فحقيقتهم كما قال صلى الله عليه وسلم" "لا يجاوز حناجرهم".

وبعض مُنَظِّريهم يستدلون بسبب نزول الآية على ما يفترونه من مُرَادَاتٍ خبيثة، وهو استدلال لا يصح لأمور: الأول أن العبرة بعموم الآيات وإطلاقاتها وما تحمله ألفاظها من معان، لا بخصوص أسبابها، فأسباب النزول يمكن أن يستعان بها في فهم القرآن، لكن لا يصح أن تُحمل الآيات من المعاني مالا تتضمنه ألفاظها، وإنما يفعل ذلك أهل البدع كصنيع من يستدل على ولاية علي رضي الله عنه بقوله تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"، فيحصرون الولاية في عليّ، لما رُوي أنه مر به سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه، فتركوا عموم الآية وما فيها من أحكام وسلطوا ما رووه أو توهموه من سبب نزول الآية على تفسير معناها، فهذا منهج بدعي يُفْضي إلى ترك آيات القرآن وما فيها من عموم الرحمة والهدى إلى خصوص أسباب النزول، ليكون التشريع هو أسباب النزول وليس القرآن.

الثاني: سبب نزول الآية لا يدل على ما يتوهمه الدواعش في تبرير اقترافهم لهذه الجرائم، فقد رُوِي أنها نزلت في شأن أبي بكر وأبي عبيدة وعمر ومصعب رضي الله عنهم، إذ أراد أبو بكر قتل ابنه في معركة بدر، ورُوِي في خبر ضعيف أن أبا عبيدة قَتَل أباه، وقتل مصعب كما رُوِي أيضا أخاه، وقتل عمر خاله، وكل ذلك كان في معركة بدر، وهؤلاء الصحابة، رضي الله عنهم، قتلُوا كفارا أصليين مقطوع بكفرهم، لا يختلف في كفرهم اثنان، فهم عبدة أصنام، وهؤلاء المقتولون محادون لله قطعا لا شبهة في معاداتهم ومحادتهم لله ورسوله، فقد خرجوا من مكة في جيش لجب ليقاتلوا رسول الله ويقضوا على دولة الإسلام.

فأين سبب النزول هذا مما يفعله الدواعش من قتل أناس يشهدون الشهادتين ويقيمون مباني الدين الأربعة: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وليس في فعل الصحابة، رضي الله عنهم، غدر كما هو شأن الدواعش، بل قتلوا أولئك الكفار في معركة شريفة، يقف كل منهم نِدا لخصمه، في مشاهد عظيمة أبعد ما تكون عما يقوم به الدواعش من لؤم لا يمت إلى أخلاق الإسلام بصلة، فضلا عن أخلاق الفرسان التي تواطأت عليها شيم المقاتلين في كل زمان.

الثالث: أن سبب النزول الذي يفسرون به الآية ليس مقطوعا بأنه هو سبب نزولها، فحمل الآية على أحد ما قيل إنه سبب في نزولها تعسف لا فائدة له غير إقرار الجهالة وترسيخ الضلال.

سُقْتُ هذا الدليل والجواب عنه للاستشهاد على عظمة ما أخبر به نبينا، صلى الله عليه وسلم، وصدق ما أخبر به من صفات كلاب النار، وأنهم أبعد الناس عن فقه الأدلة القرآنية وفهم معانيها، لجريان آيات الكتاب على ألسنتهم ليس تزكية لهم كما قد ينطلي على البعض، بل هو مصداق لخبر المصطفى، صلى الله عليه وسلم، عن حجم ضلالتهم وبهتانهم.