ابتسمت وأنا أحمل بين يدي مجلة مشهورة كتب على غلافها الخارجي (أنجح مائة رجل وامرأة في العالم)، وبالرغم من أنني أشاهد كثيراً مثل هذه العناوين على أغلفة المجلات، إلا أنني أصبحت أراها بغير العين التي كنت أراها بها قبل أن أبدأ رحلتي مع الذات، فقد أدركت أن معايير النجاح التي بنيت عليها هذه التقييمات، بل معايير النجاح في عالمنا المادي الرأسمالي هي معايير محددة، وكلها تندرج تحت مفهوم التملك الذي ركائزه الملكية للأشياء ورأس المال والأرباح والسلطة والمناصب والشهرة، عالم تحكمه المادة، ومجتمع محوره الأشياء، ولكن أحقاً بهذا يقاس النجاح، أم أن هناك مفهوماً آخر أصح وأعمق وأدق من هذا المفهوم الخاطئ عن الناجح. 

إن ما يقابل مفهوم الملكية هو مفهوم آخر يسمى الكينونة، وهو الذي فصل فيه وأبدع المحلل النفسي العميق والفيلسوف الكبير إريك فروم في كتابيه (الإنسان من أجل ذاته) و(الإنسان بين الجوهر والمظهر)، فالسمة الأساسية لنموذج الكينونة هي أن يكون الإنسان نشيطاً إيجابياً فاعلاً. لا بمعنى النشاط الظاهري، أي الانشغال، وإنما النشاط الداخلي، وهو الاستخدام المثمر للطاقة الإنسانية الداخلية والتعبير عن الملكات والقدرات والمواهب، أي أن يجد الإنسان نفسه وأن ينمو داخلياً ويتدفق ذلك كله منه شغفاً وحباً وعطاءً. أما الإيجابية والفعالية فهي بالمعنى الحديث السطحي تعنى فقط بالسلوك، وليس بالشخص وراء هذا السلوك، دوافعه، تواصل ذاته مع الفعل.

إن النشاط الإيجابي الفعال هو العمل الذي يقوم به الإنسان متحرراً لا مساقاً بقوة خارجية مثل العبد، أو بدوافع قهرية داخلية مثل القلق والخوف، وبذلك يشعر بالاغتراب بينه وبين فعله، فلا يشعر بنفسه فاعلاً. فقط في النشاط الإيجابي الفعال غير المغترب يجد الإنسان ذاته، فنشاطه هو تعبير عن طاقته وتجلٍ لقدراته ليصبح هو وقدراته كياناً واحداً بعلاقة موصولة بالشيء الذي يفعله وعندها فقط يسمى النشاط مثمراً، لأنه أسهم في تحقيق الإنسان لذاته من خلال إمكانياته وملكاته، وعندها يولد شيء جديد في كل أعماله، وعندها يكون حياً، فمفهوم الحياة أعمق من أن يحصر في حياة الجسد، والوجود الحقيقي وكشف قدرات الإنسان الخاصة هما الشيء الواحد نفسه، فالنشاط الإنساني الحر الواعي هو الحياة.

إن النشاط المغترب عن ذات الإنسان قد لا يعني سوى المشغولية، ولكنه في الحقيقة وبمعيار الإثمار الداخلي ليس إلا سلبية، وفي المقابل قد تكون هناك أنشطة هي قمة الإيجابية بإثمارها الداخلي وإن بدت خارجها أنها غير ذلك، مثل الجلوس والنظر والتأمل والتفكر، وكل نشاط يقوم به الإنسان متحرراً يقربه من ذاته.

النجاح الحقيقي يبدأ بمعرفة النفس وتقدير الذات، ومن ثم تحقيقها. كلمة طالما رددها سقراط (اعرف نفسك) ومن هنا يبدأ الإبداع والذي هو وليد تفاعل وتواصل الذات الحقيقية المنفردة المتميزة في كل إنسان مع كل ما يفعل، مع كل ما يقوم به من الأفعال كما وصفها فروم (إن مهمة الإنسان الكبرى هي أن يلد نفسه).

إن غياب الإبداع عند معظم الناس هو تجسيد لجانب من مأساة الوضع الإنساني في أن نشوء الذات لا يكتمل وحتى في أفضل الظروف لا يتحقق إلا جانب من إمكانياته، فمعظم الناس يموتون قبل أن تكتمل ولادتهم.

يقول الفيلسوف الكبير اسبينوزا (أفهم من الفضيلة والقدرة الشيء نفسه)، فالفضيلة عند اسبينوزا متطابقة مع استخدام الإنسان قدراته وملكاته، والرذيلة هي الإخفاق في استخدام طاقاته. أليس هذا متطابقاً مع حديث رسول الله (كل ميسر لما خلق له)، أي كل إنسان خلق لهدف وغاية، فإن عرفها يسر للخير وإن جهلها حرم التيسير.

يقول الشيخ العالم الكبير بديع الزمان نور الدين النورسي (إن الإنسان هو نسخة جامعة لما في الوجود من خواص، حتى يشعره الحق جل وعلا جميع أسمائه الحسنى المتجلية بما أودع في نفس الإنسان من مزايا جامعة. فالذات عند النورسي مقياس للمعرفة ومعيار لها، بل ويذهب في استقرائه إلى أن الذات هي الأمانة التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. أليس هذا متوافقاً مع قول سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه:

دواءك فيك وما تشعر             وداؤك منك وما تبصر

وتحسب أنك جرم صغير          وفيك انطوى العالم الأكبر

 وأنت الكتاب المبين الذي         بأحرفه يظهر المضمر

فلا حاجة لك في خارج             يخبر عنك بما سطر

بل الخير في فلسفة الأخلاق الإنسانية هي توكيد الحياة لمفهومها العميق، أي كشف قدرات الإنسان، والفضيلة هي المسؤولية عن وجوده، والشر هو شلل قدرات الإنسان، والرذيلة هي عدم مسؤولية المرء عن ذاته، وهي عدم مبالاة المرء بذاته وإفساده لها.

والإنسان الذي يعمل خارج هذا المفهوم يعيش في وهم كبير في أن أعماله تخدم مصلحته، وقد يكون هو الذي يخدم بالفعل كل شيء سوى مصالح ذاته الحقيقية ليصبح كل شيء مهماً بالنسبة له، باستثناء حياته، ذاته، وهو من أجل كل شيء، إلا من أجل ذاته، يقول تعالى (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) ولم يقل سبحانه (واستعمرها بكم)، ولو أراد سبحانه عمار الأرض بمنأى عن عمار الإنسان لقال (استعمرها بكم)، ولكن كل عمار في الأشياء والحجر لا يسهم في عمار البشر لا يعد عماراً عند الله.

أدركت أن النجاح الحقيقي هو أن يتوافق فضاؤك الداخلي مع خارجك، أن تحترم ذاتك وأنت تنظر في المرآة، فأعظم الخيانات خيانة الذات، وغاية الحياة أن يستحي المرء من نفسه أولاً، عندها لا يضيرك اعتراف الناس بأعمالك أو حتى استنكارهم لها، وتتحرر من الأنا التي تتعطش وتعيش على نظرات الإعجاب وكلمات الثناء والشهرة وتعتبرها من معايير النجاح.

وبذلك أصبح حراً فالحرية أن يكون الإنسان تحقيقاً لذاته، لا أن يكون حزمة من الرغبات الشرهة والدوافع المادية الواعية منها واللا واعية. أدركت أن النجاح الحقيقي أن تملك الأشياء بيدك ولا تجد طريقها إلى قلبك، فتملكها ولا تملكك، وعندها لن تحزن عند زوالها عنك، ولن تفرح عند قدومها عليك.

وفي مقال قادم إن شاء الله، ستكون نهاية رحلتنا مع (الأنا)، لتكون في وصفة النجاح، وصولاً إلى الفوز والفلاح.