كما يعلم الجميع فإن المملكة العربية السعودية تحتفل باليوم الوطني لتوحيدها في 23 سبتمبر سنويا، هذا التاريخ يرتبط بالمرسوم الملكي الشهير الذي أصدره الملك عبدالعزيز بتاريخ 17 جمادى الأولى عام 1351، ويقضي بتحويل اسم الدولة من (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) إلى المملكة العربية السعودية، اعتبارا من يوم 21 جمادى الأولى 1351 الموافق 23 سبتمبر 1932، وخلال هذه العقود واجهت المملكة تحديات داخلية وخارجية، لكن تلك الخبرات والتجارب السياسية بلورت ما يُمكن تسميته "الكود الحضاري السعودي" الذي يُعتبر بمثابة دستور غير مكتوب، على غرار النظام البريطاني، حيث تعد وثيقة "الماجنا كارتا" أو "الميثاق الأعظم" بمثابة دستور عرفي لأعرق الديمقراطيات، وهذه الوثيقة الإنجليزية صدرت للمرة الأولى عام 1215، وجرى تعديلها في القرن الثالث عشر، لكن بنسخة تتضمن أحكاما أقل، حيث ألغيت بعض بنود النسخة الأولى، خاصة تلك التي تفرض قيودا صريحة على سلطات الحاكم واعتمدت هذه الوثيقة قانونيا عام 1225، وما تزال النسخة التي صدرت عام 1297م تحكم كل لوائح الأنظمة الداخلية لإنجلترا وويلز حتى الآن.
وبالطبع يكون القياس مع الفارق بين الحضارة والثقافة والموروث الديني العربي والإسلامي والغربي ذي المرجعية المسيحية، لكن تظل "منظومة الحكم" بالمملكتين متناغمة الجوهر، وقد تجلى ذلك حينما وجدت السعودية نفسها في مواجهة عصر الحداثة مثقلة بتركة من التقاليد الراسخة، والمسؤولية عن حماية الإسلام باعتبارها الدولة التي تضم أكثر الأماكن قداسة وهي مكة المُكرمة والمدينة المنورة، ويزورها ملايين المسلمين سنويا من شتى أصقاع الأرض، لأداء فريضة الحج، ويعتمرون طيلة أيام العام، لذلك تراكمت منذ الملك المؤسس وأبنائه خبرات منظومة الحكم وجسدتها "هيئة البيعة" سعيا للتناغم السياسي والاجتماعي، وتطويع التقاليد بما يلائم مطالب الحداثة، لكن من دون المساس بجوهر العقيدة، والمعلوم من الدين بالضرورة، واحترام الأعراف الاجتماعية السائدة.
وعلى صعيد السياسة الداخلية يقول كريستوفر بوسيك الباحث بمؤسسة كارنيجي إنه "نادرا ما شهدت السعودية حالة عدم استقرار، فالأسرة الحاكمة دائما توحد صفوفها بسرعة لتقرر ما يجب فعله بسرعة عند وفاة أي ملك، وأضاف "لن يكون هناك أي فراغ في السلطة"، كما يرى خبير الشؤون السعودية ومؤلف كتاب "جيوسياسية السعودية" أوليفييه دالاج: "أنه وعلى عكس كل المخاوف، فإن الخلافة طالما حصلت بسلاسة في المملكة"، وأشار في هذا السياق إلى أنه قبل تشكيل هيئة البيعة، "كانت الخلافة محصورة في أبناء الملك عبدالعزيز، لكنها عقب تولي الملك سلمان، أصبحت متاحة لجيل الأحفاد، لتنتقل بذلك مقاليد السلطة من المسار الأفقي بين الإخوة، للمسار الرأسي بين جيل الأمراء الأحفاد.
ويشير أوليفييه دالاج إلى أنه خلافا لكافة المخاوف، فإن انتقال الملك لطالما حصل بسلاسة في السعودية"، وأشار في هذا السياق إلى أن الملك الراحل عبدالله شكل نهاية 2007 هيئة للبيعة مؤلفة من 35 أميرا من الأسرة الحاكمة لإدارة شؤون الخلافة وخصوصا مسألة اختيار ولي العهد، كما جاء العاهل الحالي الملك سلمان بن عبدالعزيز ليستكمل المسيرة، ويرتب البيت السعودي داخليا بحنكة اكتسبها عبر عقود كان فيها "مؤدب الأمراء" ومعلمهم وقاضيهم، والمسؤول عما يتعلق بجميع أبناء الأسرة الحاكمة، الأمر الذي منحه خبرة عميقة بتوازنات بالغة الدقة والحساسية، لكنه فعلها بصرامة وسرعة، لينتقل بعدها لما يُمكن وصفه بمصطلح "المملكة الجديدة" المعنية بالشأنين الإقليمي والدولي.
وفي هذا المضمار شكلت المملكة الجديدة قوات ساهمت فيها دول مجلس التعاون ومصر، للتصدي للتمدد الفارسي من العراق شرقا، لسورية ولبنان شمالا وصولا إلى اليمن وميليشيات "الحوثيين" الموالين لإيران، بالإضافة لدعم النظام المصري لبناء "الجمهورية الجديدة" لاعتبارات المصالح المشتركة على الأصعدة الإستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية وغيرها.
وربما لعب "الكود السعودي" دورا حاسما حمى المملكة من الاحتجاجات التي اجتاحت عددا من الدول العربية الأخرى، بل حتى إن بعض الملكيات في العالم العربي كالأردن والمغرب، لم تكن بمنأى عن رياح الربيع العربي، إذ نزل الناس للشوارع وطالبوا بالتغيير لكن دون المطالبة بإسقاط النظام، كما هو حال حركة 20 فبراير المغربية، لكن السعودية كانت بعيدة تماما عن تلك التحولات الدرامية والحروب الأهلية، لأن الشباب في هذه المنطقة يعيشون حياة مستقرة، وليسوا بحاجة للتغيير، كما يؤمنون يقينا أن نظام الحكم يرسخ بحكمة وتوازنات دقيقة منظومة الحريات السياسية والاجتماعية، التي يتمتع بها نسبيا أقرانهم في بقية دول مجلس التعاون، بل ويتجاوزها لكافة أنحاء العالم العربي.
ومنذ وفاة مؤسس الدولة السعودية الحديثة الملك عبدالعزيز في 1953، تعاقب سبعة من أبنائه على سُدّة الحكم بالمملكة التي تمتلك أكبر ثروة نفطية في العالم، وجرت عملية الخلافة دائما بسلاسة، وإبّان المدّ القومي والانقلابات العسكرية التي شهدتها دول كبرى بالمنطقة، لم تصل تلك الموجة للمملكة ولا إلى أيّ من دول الخليج، التي ترتبط عادة -حكومات ومجتمعات- بصلات تقليدية راسخة بالسعودية، فضلا عن العلاقات الوثيقة بين المملكة ودول محورية مثل مصر ومملكتي المغرب والأردن.
وختاما فإن المملكة في عهد سلمان أعادت ترسيم ملامح "الدولة الجديدة" التي تتناغم فيها وضعيتها الدينية وتقاليدها العربية، وأيضا باتت محورا لحلف إقليمي جديد يتصدى لمؤامرات الغرب بإشاعة الفوضى وإعادة تفكيك وتركيب خرائط المنطقة، بالإضافة لمخططات التمدد الفارسي الذي وصل إلى درجة "الحروب بالوكالة" والمُضّي قُدما لتحقيق مشروع الخميني "تصدير الثورة" وأوهام "عُصبة الملالي" بقيادة العالم الإسلامي، ناهيك عن التصدي للتنظيمات الإرهابية مثل "داعش" وغيرها وما تشكله تلك الكيانات من مخاطر مُحدقة باتت تُهدد استقرار المنطقة وتحولها لساحة اقتتال، تروج خلاله تجارة السلاح الغربي والشرقي، لنظل مجرد أسواق استهلاكية، وهي المخاطر التي فرضت على معظم دول المنطقة وفي صدارتها السعودية ومصر ودول الخليج تنحية أية خلافات ثانوية جانبا، لتتكاتف لتوحيد الرؤى والتحركات والتنسيق المشترك المدروس، لتعبر بلادنا هذه المرحلة المفصلية من تاريخ إقليم وجغرافيته بسلام.