إذًا، لم تكن الفتاة من غرقت على أحد شواطئ دبي، كانت الحقيقة، وتلك القيمة الإنسانية المفتقدة، التي كنّا نسميها الموضوعية. فالأمر برمته هو تعبير عن معنى كلمة التنميط، والتفكير داخل الصندوق، والقياس الخاطئ، والتعميم المتعالي.
والخبر الذي تابعناه جميعا قبل فترة عن الرجل الآسيوي الذي منع المنقذين من الوصول لابنته التي تغرق كي لا يمسها رجل غريب، تناقلتها كبرى صحف وفضائيات أوروبا، قبل أن تخرج صحيفة الجارديان البريطانية لتوضح القصة الحقيقية.
ويتبين أن هذه الحادثة ليست خبرا صحفيا طازجا، وإنما هي قطعة من ذاكرة عمرها 19 عاما لضابط أمن إماراتي كان يروي في مقابلة صحفية عن القصص الغريبة والنادرة التي مرت معه خلال عمله.
وبالطبع، ووفق طبيعة الأشياء، مرور 19 عاما على ذاكرة رجل يقتضي عمله معايشة عشرات الحالات يوميا، يضيف على القصة الأصلية ضعفا إضافيا وخيالا تراكميا، ولا بد أنها تغيرت قليلا كرواية عما كانت عليه في الواقع.
ما يهمنا في القصة، أنها تعيد لفت انتباهنا إلى الظاهرة العالمية التي اتفق على تسميتها "الإسلاموفوبيا"، والتي تختصر كثيرا من المعاني في داخلها، بدءا من القياس الخاطئ، إلى التعميم المجحف، مرورا بتعطيل التفكير المنطقي.
فعلى المستوى المهني، تلغي القصص المتعلقة بالمسلمين ذلك الحس الذي يفترض أن يتحلى به الصحفيون والعاملون في الشأن العام، وهو الرغبة في التحقق.
القصة بدأت يوم 11 أغسطس الماضي، حين نشرت وكالة الصحافة الفرنسية "آ.إف. بي" خبرا يقول:
"ألقي القبض في دبي على رجل آسيوي منع رجال الإنقاذ من انتشال ابنته التي كانت تغرق في البحر خوفا على شرفها، ما أدى إلى وفاتها، على ما ذكرت صحف محلية. وقال الضابط المسؤول في شرطة دبي أحمد بورقيبة لصحيفة "إميريتس 24-7" إن الوالد أخذ عائلته إلى الشاطئ، ونزل أبناؤه إلى المياه. وفي وقت لاحق، بدأت ابنته البالغة من العمر 20 سنة بالصراخ والاستنجاد لإنقاذها لأنها كانت تغرق، فتوجه رجلا إنقاذ إلى المياه لانتشالها. إلا أن الوالد -قوي البنية- بحسب الضابط، منعهما من ذلك وجرهما إلى الخلف واستخدم العنف معهما.
وأوضح نفس المصدر، أن الرجل أكد أنه تصرف على هذا النحو لإنقاذ شرف ابنته ولأنه "يفضل موتها غرقا على أن يمسها رجل"!
وحين نقول وكالة الصحافة الفرنسية، فنحن نقول 8000 وسيلة إعلام "مشترك ومستفيد من خدمات الوكالة"، أي أن الخبر وصل للنوع البشري بكامله، قبل أن تكشف صحيفة الجارديان أن القصة قديمة، وأنها مجرد استعادة لملامح حادثة قديمة.
الصحف والفضائيات الفرنسية تعاملت مع الخبر "في اليومين الفاصلين بين نشره ونفيه" باهتمام شديد واندفاع من يكتشف قنبلة موقوتة تحت وسادته لحظة استيقاظه، وتصدرت الحكاية أحداث الساعة في وسائل الإعلام الفرنسية كما في باقي وسائل الإعلام الغربية، بدءا بالمواقع الإلكترونية التجارية التي تجذب المراهقين وحسناوات الشانزيليزيه وعشاق صفحات الحوادث، وبالصحف التي توزع مجانا في محطات المترو، إلى وسائل إعلام كبرى مثل صحيفة ذي ميل "The Mail" والتليجراف "THE TELEGRAF"، ولوفيجارو الفرنسية "le figaro"، وموقع فرانس تلفزيون الإخباري "FranceTVinfo"، وسكاي نيوز "بكل لغاته".
حتى خبر النفي جاء لاحقا على لسان هذه الوسائل نفسها تحت عنوان يعزز الفرضية الأصلية "لا لم يترك الأب ابنته تغرق في دبي هذا الصيف" فهناك إذًا أب محتمل، وهناك شاطئ في دبي، وهناك فتاة يمكن لها أن تغرق، وهناك منقذون قد يهرعون لإنقاذها، والأب المفترض عندها سيمنعهم حفاظا على شرف ابنته، لكن مع فارق بسيط: هذه القصة الممكنة الحدوث، لم تحدث هذا الصيف بل قبل 19 عاما، في "دبي"، وفي دبي التي يحفظ مواطنوها الخليجيون المسلمون الإنجليزية أكثر بكثير من أشعار امرؤ القيس قد يحدث كل شيء.
في لغتنا الدارجة نستخدم كلمة "بيعملها" بنبرة محددة تعني أن الشخص الذي يتم الحديث عنه يمكن أن يفعل أي شيء، ولا يستغرب عنه فعل ذلك، وحتى لو لم يفعلها، فهو قد فعلها ذات مرة، أو سيفعلها قريبا. وهذا التعبير يعني تصديق القصة، وتثبيتها ووصم الرجل بها حتى لو لم تقع، والعقل الغربي ووسائل إعلامه بشكل خاص، يتعاملان معنا وفق هذا التعبير، وأي قصة تعبر عن التخلف والقسوة واللاإنسانية ستكون قابلة للتصديق.
صورة المسلم التي صنعتها السينما الأميركية ووسائل الإعلام، لن تكون قابلة للتصحيح، ما لم نتوقف نحن بأفعالنا عن تعزيزها، وتحديدا ما لم يتوقف "السفهاء منّا".
قال برنارد شو يوما: "خياطي هو العاقل الوحيد الذي أعرفه، فهو يأخذ قياساتي من جديد في كل مرة أذهب إليه".