بمناسبة اليوم الوطني نعيد التفكير في التربية والتعليم ودورهما في مساعدة الناس على العيش مع بعضهم البعض في بيئة آمنة ومفتوحة للحياة الكريمة والناجحة. في هذا المقال سأعرض وجهة نظر مختلفة في العلاقات التربوية لعلها تساعدنا على التفكير في كيف يمكن أن نجعل تعليمنا أكثر إنسانية وأكثر نفعا للأفراد وللمجتمع.

التعليم الحالي يتحرك ضمن أفقين أساسيين أحدهما يؤسس الواقع الممتد من فترة طويلة، والآخر يمثل الإصلاح المطروح على الطاولة. الرؤية التقليدية لا تزال ترى التعليم على أنه نقل المعلومات من جيل إلى جيل. الأطفال في هذه الصورة كائنات جديدة تحتاج إلى أن يتم تزويدها بالمعارف المتوفرة للجيل السابق. في هذه الحالة غالبا ما يتعلم الأطفال ما يهم الكبار ويتم الابتعاد عن الطفولة واحتياجاتها. هذا التعليم يؤدي في الغالب إلى عنف صريح كما نرى في العقوبات الجسدية وعنف نفسي يتمثل في إنكار شخصيات الطلاب الذاتية وردها إلى الشخصية المثالية التي يتبناها التعليم. في هذا التعليم لا مكان للجديد والمختلف.

في المقابل الحل المطروح غالبا هو التعليم الذي ينظر للطالب من منظور اقتصادي بحت. في هذه الصورة التعليم يتحول إلى مجرد عملية إعداد الطلاب لسوق العمل. هذا التعليم يجد ترحيبا كبيرا باعتبار أن الحصول على وظيفة يعتبر هدفا أساسيا للطلاب وأهاليهم. الجانب الصحيح في هذا التعليم يتمثّل في أن التأهيل لسوق العمل فعلا أحد الأهداف الأساسية للتعليم، لكن الجانب غير الصحيح هو أن هذا هدف التعليم الوحيد أو حتى الأساسي. التعليم عملية تتجاوز الجانب الاقتصادي إلى تجربة إنسانية فردية واجتماعية أخلاقية في جوهرها. أي أنها تجربة حياة كاملة يؤسس فيها الإنسان علاقاته الأساسية مع الطبيعة والناس والأفكار. داخل حقيبة التعليم الاقتصادي نجد تصورا معينا للعلاقة بين المعلم والطالب تتمثل في الحد قدر الإمكان من التواصل بينهما تحت شعار ترك الطالب يتعلم بنفسه وأن دور المعلم يتوقف فقط على تيسير هذا التعليم. هذه العلاقة تؤدي إلى اغتراب الطالب في محيطه التعليمي. ما يتعلمه من العلاقات مع من حوله من الناس ينظر له على أنه ثانوي وربما غير مرغوب فيه، مقارنة بالتعليم الفردي الطبيعي.

ما سأقترحه هنا ليس تصورا كاملا وبديلا للأطروحات السابقة، بل مجرد دعوة للتفكير من جديد في التعليم والتربية كتجربة أساسية تمثل حياة كل إنسان. أقترح أن نفكر في العلاقات التربوية وفي المدرسة من منظور الضيافة. أقصد بالضيافة هنا تلك العلاقة التي تجمع بين إنسانين: ضيف ومضيف وما يترتب عليها من معان أخلاقية ومزاج نفسي. الضيافة أفق متميز من الوجود المشترك. بمجرد أن يتحول فلان إلى مقام الضيافة عندك فإنه يحظى بحقوق هائلة وبالتزام أخلاقي عميق جدا. الضيافة أمان وانفتاح. الضيافة رحمة وكرم. الضيافة موجهة بشكل أساسي للغريب والمسافر والمحتاج والضعيف. نلاحظ أن هؤلاء غالبا من يتعرضون للظلم والاضطهاد. دعونا نفكر في المدرسة المضيافة والمعلمة المضيافة والتعليم المضياف. في البداية هذه المدرسة ستعزز من قيمة الانفتاح والتسامح وتقبل الآخر المختلف والغريب. الباب المفتوح هو العلامة الأكبر للضيافة. المضيف الكريم لا يختار ضيوفه بل يستقبلهم. المضيفة الكريمة تحمي ضيوفها وتدافع عن حقوقهم. الضيافة بهذا المعنى تمثل أفقا مهما للتواصل البشري. فيها إعادة جوهرية لأولوية العلاقة الأخلاقية بين البشر. إعادة لعلاقة التعاون والرحمة والمساعدة بدلا من آفاق الخصومة والعداوة والكراهية.

اليوم المدارس تحتاج مثل هذه الأفق لمواجهة الكثير من المشاكل. لدينا مثلا مشكلة العنف في المدارس. سواء عنف المدرسة ذاتها أو عنف العلاقات بين الناس في المدرسة. المدارس اليوم تنفتح على تنوع بين طلابها. الطلاب اليوم، مثل المعلمات والمعلمين يواجهون من يختلفون معهم وعنهم باستمرار، الضيافة تجعل الغريب مرحبا به بدلا من أن يكون مثيرا للريبة والعداوة والقطيعة. كذلك نواجه انفصال المدرسة عن الأفق الاجتماعي المحيط بها. الضيافة في المقابل تواصل اجتماعي من الطراز الرفيع. أفكر هنا في المدرسة التي تفتح بابها وتساعد طلابها على استضافة من حولهم من فئات المجتمع المختلفة. الضيافة هنا تواصل يفتح للآخر القادم من الخارج مكانا مناسبا للحضور. المضياف الكريم لا يطلب من ضيفه أن يتغيّر بل يحافظ على غيريته ويرعاها. على مستوى العلاقة بين المعلم والطالب تساعدنا الضيافة على تصور علاقة تتأسس على حضور غيرية وآخرية الطالب وتتناقض مع تجاهل هذه الغيرية والمطالبة بتحويل الطالب إلى مثيل ونسخة جديدة. الضيافة كذلك أفق لمقاومة الاغتراب وانفصال الناس عن بعضهم بعضا. الضيافة في عمقها التزام أخلاقي تجاه إنسان ما. هذا الالتزام يظهر مع اقتراب هذا الإنسان لنا. الضيف عند الباب يثير حالة طوارئ عند الكريم حتى يدخل البيت وتتم ضيافته. باختصار الضيافة تساعدنا على تذكّر أن التربية والتعليم يتجاوزان نقل المعلومات من إنسان إلى إنسان كما يتجاوزان أن يتولى أحدهم تدريب الآخر على مهارة معينة. الضيافة تساعدنا على التفكير في التعليم كعلاقة أخلاقية قبل أي شيء آخر لنتذكر أن وجود البشر مع بعضهم في المدرسة هو حدث أخلاقي قبل أي شيء آخر.