للأسف الشديد، معظم شعوب المعمورة تجهل الغرض من إنشاء هيئات أسواق المال التي من أهم أهدافها التأكد من عدالة متطلبات الإدراج وكفايتها وشفافيتها، وتنظيم قواعد التداول وآلياته الفنية، مع توفير الأحكام والإجراءات السليمة والسريعة للتسوية والمقاصة.
ولتحصين الأسواق المالية وتحديد ترتيباتها المناسبة لحماية الأموال والأوراق المالية المودعة لدى شركات الوساطة، تقوم الهيئات بوضع المعايير المهنية للوسطاء ووكلائهم وتطبيقها، والتحقق من قوة ومتانة الأوضاع المالية للوسطاء. ولجهلهم بهذه الأهداف، تكيل هذه الشعوب اللوم على هيئات أسواق المال عند هبوط مؤشرات الأسهم، وتلتزم الصمت عند صعودها وتحقيق أرباحها، ولا تنتبه إلى تحديات الاقتصاد المحلي للدول أو مشاكل الاقتصاد الكلي للتكتلات.
هذه الشعوب أغفلت تحذير "ستيفن روش" الرئيس الأسبق لمجلس إدارة "مورغان ستانلي"، الذي طالبهم قبل ثلاثة أشهر بعدم الاستهانة بالآثار السيئة لتراجع الاقتصاد الصيني على كل أسواق المال في قريتنا الكونية.
لذا، فوجئ المستثمرون بيوم الإثنين الأسود في 24 أغسطس الماضي، والذي أدى إلى تراجع مؤشرات أسواقهم بنسب متفاوتة، كان أسوأها تراجع مؤشر "شانغهاي" الصيني بنسبة 8.49%، وتبعه المؤشر الفرنسي بنسبة 5.4%، ثم الياباني بنسبة 4.61%، والألماني بنسبة 4.70%، والأميركي بنسبة 3.58%.
كما فقدت السوق السعودية 6.86% من قيمتها، وأغلقت بورصة دبي على خسائر حادة بنسبة 6.96%، وتراجع مؤشر سوق أبوظبي بنسبة 5.01%، وانخفض مؤشر بورصة قطر بنسبة 5.25%.
ومع أن تحذير "روش" جاء متزامنا مع التقارير الدولية التي أكدت أن مشاكل الصين لن تتوقف خلال الأمد القريب، وهي أسوأ مما نتصور نتيجة تجاوز مساهمة قطاع الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي الصيني في العام الماضي بنسبة 48.2%، لتتخطى حصة قطاع الإنتاج والبناء التي انخفضت إلى 42.6%. كما أن استمرار هذه الفجوة في الاتساع خلال النصف الأول من عام 2015 مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي أدى إلى تباطؤ الاقتصاد الصيني وتراجع مؤشرات الأسهم في الأسواق العالمية التي فقدت أكثر من 5 تريليونات دولار أميركي خلال 3 أيام، تعادل 35% من قيمة التجارة العالمية السنوية في قطاعي السلع والخدمات.
ونظرا لأن أسواق المال تعدّ المرآة الصادقة للاقتصاد، فلقد أدى فشل الاستراتيجية الانتقالية للاقتصاد الصيني، والتي انتهجتها الحكومة منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في 11 ديسمبر عام 2001، إلى تكبد الأسواق المالية الصينية عواقب هذا الفشل وتأثيره على العالم أجمع. وجاء هذا الفشل نتيجة إخفاق الصين في تحويل اقتصادها المحلي من مجتمع اشتراكي بحت، يستخدم الشركات الحكومية في التجارة، إلى مجتمع رأسمالي معتدل، يعتمد على مبدأ عدم تدخل الدولة في التجارة، وهذا أدى بدوره إلى اصطدام الاقتصاد الصيني عبر العقد الماضي بكثير من العقبات نتيجة تخبط استراتيجيتها الانتقالية، وتفاقم مصاعب خططها التي باتت أعظم من قدرتها على كبح جماح الانخفاض المفاجئ لعملتها الوطنية وركود اقتصادها.
عضوية الصين في النظام التجاري العالمي لم تسعف اقتصادها المحلي من أخطار العولمة، فانجرف سوقها المالي وراء المكاسب المؤقتة ليشهد نموا متسارعا يقدر بنحو 6 أضعاف خلال 3 سنوات، لتقفز قيمته من 1000 نقطة إلى 6 آلاف نقطة.
هذا الازدهار كان نتيجة حتمية للمرحلة الأولى من نمو الاقتصاد الصيني الذي ساعد على ارتفاع قيمة سوقها المالي، وهو يختلف جذريا عن ازدهار المرحلة الأخيرة، والذي بدأ في يونيو 2014، لأنه لم يكن متزامنا ومتجانسا مع النمو الاقتصادي المحلي الذي كان أبطأ مما كان عليه قبل عامين. ومع ذلك شهدت الصين بداية عام 2015 أكبر ارتفاع في أعداد حسابات التداول التي يتم فتحها من الأفراد، إذ تم تسجيل 40 مليون حساب جديد خلال تلك الفترة، ليتجاوز عدد المداولين 90 مليونا.
وقبل انخفاض السوق المالية الصينية، واجهت البنوك المحلية ضغوطا كبيرة في زيادة العائدات، لترتفع من 3% خلال عام 2010 إلى أكثر من 5% خلال النصف الأول من عام 2015، وذلك بسبب مخاطر أموال المنتجات، وإقراض الأموال للمطورين العقاريين أو الآخرين المرتبطين بمشروعات ذات خطورة عالية. واستخدمت هذه القروض للاستثمار في الأسهم بشكل مباشر، فأصبحت مثل الرهونات لتزداد خطورتها على المستثمرين لدى هبوط مؤشرات سوق الأسهم وتراجع الاقتصاد الصيني.
لذا، فشلت الصين في مواجهة التباطؤ الاقتصادي، وأخفقت في لعبة التوازن بين تنظيم السوق ومتطلبات المستهلك، ما جعل الحكومة الصينية حبيسة لسيطرتها على السوق بإحكام. وهذا ما جعل الحكومة تتدخل بعنف عندما انخفضت أسعار الأسهم الصينية، وتبنت نظام مغاير للصرف الأجنبي لتتعمد في دفع عملتها إلى الانخفاض.
في مشاوراته الأخيرة مع الصين بشأن المادة الرابعة، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن توسع الاستثمار في الأسواق الصينية، وحصة الخدمات الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي، كان نتيجة الخطط المتزامنة لتحديث النظام المالي، وإصلاح العملة، لن يجدي نفعا في حال تراجع السلطات الصينية عن مكافحة الفساد وإصلاح الشركات المملوكة للدولة. وأوضح الصندوق في تقريره: "أن انهيار أسواق الأسهم وانخفاض أسعار السلع الأولية يأتي على رأس قائمة تصنيف المخاطر الأمنية والسياسية الأكثر خطرا على الاقتصاد العالمي، والتي ربما تؤثر على نموه في العامين القادمين في ظل التحديات التي تواجهه". لذا، فإن أسواق المال في كل أرجاء المعمورة ليست سوى مرآة صادقة للاقتصاد.