سأتحدث هنا عن "القابلية للكراهية" تحت الغطاء "الطائفي"، ولنبدأ الحديث بسؤال: ما هي "الطائفية/الطائفة"؟

الطائفة حق، والطائفية تهمة، فهي حق الانتماء الذي كفله القانون الدولي بعد نضج التجربة الإنسانية في مواثيق حقوق الإنسان العالمية، وهي تهمة عندما تمارس الإقصاء، ويترتب عليها تمييز ذا طابع تحقيري، ولهذا فمن حق أي إنسان أن يعتز بانتمائه الطائفي، ومن حقه في المقابل أن يترافع عنه بالقانون ضد من يستخدمه للانتقاص منه ماديا في تحصيل حقوق مواطنته، أو معنويا في وجوده الاعتباري داخل وطنه، ما دام هذا الانتماء على مستوى الواقع لا يدعو إلى الكراهية أو يمارس الاعتداء على فرد أو نظام، فمثلا لا يطلب النظام الأوروبي من المسيحيين على اختلاف طرقهم أو من المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن يعتنقوا منهجا خاصا في علاقتهم بالله، ولا يتدخل أحد بشكل سلطوي أو تسلطي في تفكيك هذا التصور في طريقة الوصول إلى رضا الله، وليس مشغولا بما بينك وبين الله، لا على مستوى الشعائر أو الطقوس، فالنظام يعنيه التعايش على الأرض بين الناس، ولا يعنيه طريقك إلى السماء.

مثلا في تركيا ذات الغالبية السنية، توجد بها نسبة كبيرة من المواطنين الشيعة وغيرهم، ولا نجد لدى الدولة التركية القلق والتحسس الذي تواجهه بعض الدول العربية من أقليتها الشيعية، بل ونجد دولة أذربيجان ذات الغالبية "الشيعية" في علاقة متدنية مع جارتها إيران مقارنة بعلاقة إيران الممتازة بأرمينيا "المسيحية".

أعتقد أن مالك بن نبي سيعذرني إذا استعرت منه مصطلحه الشهير "القابلية للاستعمار" مع تحوير بسيط لدراسة الظاهرة بشكل أعمق فنقول "القابلية للكراهية".

فالهند ها هي مليئة بعشرات الديانات ومئات المذاهب والملل والنحل، وها هي تصعد في مراتب متقدمة كقوة عالمية صاعدة، وجارتها غارقة في شبر ماء في صراع سني سني، وسني شيعي، وها هي بريطانيا تفتح مساجدها لنجد في هذه المساجد من يلعنها نهارا جهارا وفي آخر الشهر ينتظر الضمان الاجتماعي الذي تمنحه إياه الحكومة البريطانية من ضرائب مواطنيها، عدا التنوع الديني والعرقي الذي تستقبله هذه الجزيرة العجوز بحكمة عتَّقَها الزمن، ويعجز عنها المراهقون في بناء دولهم.

إذًا فالطريق الصحيح لحل الإشكالات الاجتماعية ذات الطابع "السياسديني" يجب أن ينطلق من محاولة البحث عن السؤال الصحيح، فلو قلنا مثلا: لماذا أعلى نسبة يشكو العالم "شرقه وغربه" من تطرفها هي نسبة المسلمين السنة؟ فإن الإجابة ضمنيا تقتضي اتهام الإسلام السني، وعندها تبدأ المدرسة الأشعرية بإعلان البراءة أمام العالم، وتبدأ الصوفية كطريقة بالبراءة أمام العالم، وهكذا دواليك على كل مذاهب وطرق أهل السنة والجماعة في العالم الإسلامي لتطرح أمام العالم أدبياتها وفقهها في التعايش، كدليل حي على حقيقة نظرتها في أنها داعية سلام ورحمة للعالمين، بينما المدرسة المتهمة بالفعل لا تجد في أدبياتها ما يسعفها سوى في الإنكار والمكابرة، مع إسقاط نبوي يخص الرسول الكريم تجيره لصالحها إذ تكرر على أسماع الناس قوله تعالى: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، متناسين أن هذه الآية تخص اليهود والنصارى في عهد النبوة، لأن أوروبا وأميركا الآن مليئة بالمساجد، ومليئة بالدعاة المسلمين، من أهل البلد نفسه، ومن غيره، يلتقون الناس يدعونهم للإسلام من غير نكير حكوماتهم، بل ونجد في بعض حكوماتهم وزراء أصلهم عربي، ومواطنون مسلمون يحملون جنسيتها، فكيف يتوهم البعض في أنفسهم مقاما كمقام النبي الكريم في كل آية يخاطبه الله بها قبل 1400 سنة.

"القابلية للتحارب الأهلي" هي الإشكال الحقيقي الذي تواجهه الدول العربية، بعناوين الطائفة أو القبيلة أو الحزب الإثني، وأسبابه لا تقع على إيران ابتداءً، التي حولها البعض إلى سعلاة ولا يخافها سوى الأطفال فقط، لأن تطفل إيران نتيجة وليس سببا، فإيران مجرد بلد يعاني إشكالات عديدة كما يعاني أي بلد من العالم الثالث، لكنه يستغل هذه القابلية، ولهذا فالسؤال الحقيقي هو: لماذا هذه القابلية للتحارب تحت العنوان الطائفي "السني الشيعي" في بعض دول الوطن العربي، بينما لا توجد بنفس الحدة في تركيا، أو أذربيجان، أو في الهند، أو حتى سلطنة عمان.

وعندها فهل نلقي اللوم على "الطائفية" بتحليلات تخبط في السنة حينا وفي الشيعة أحيانا أخرى، أم ندرك أن الإشكال مفاهيمي وليس اصطلاحيا أو شعائريا، فبعض أهل السنة والجماعة في العالم الإسلامي يحتفلون مثلا بالمولد النبوي، والمطلوب فقط ليس على المستوى السني الشيعي، بل على المستوى السني السني، أن يستطيع المعارضون استيعاب فكرة المولد النبوي، كحق البقية، وكنوع من التعددية دون افتعال خصومة، قد تصل أحيانا إلى الاتهام العقائدي والتكفير لبقية أهل الإسلام سنة وشيعة،  فالأزمة ليست أزمة سنة عرب أو شيعة عرب، وصراع طائفي مفتعل بينهما، بل يوجد ما هو أشد منه بين المذاهب السنية نفسها وبين المذاهب الشيعية نفسها، كأنما المخرج هو في تغيير العقائد وفق فهم عقل واحد، المسألة هي في نظام تعايش واحترام متبادل له قوانين تنظمها الدولة كما في دول العالم.

الإشكال إذًا ليس في احتفال الشيعة بيوم عاشوراء أو شعور بعضهم المتطرف "بالمظلومية"، ولا في احتفال غالبية أهل السنة في العالم الإسلامي بالمولد النبوي، وشعور بعض أهل السنة المتطرف "بالغربة" في هذا الزمن بناء على حديث أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء.." لتتخطفهم داعش، أما أحاديث ظهور المهدي فتجدها لدى السنة كما الشيعة، وعليها أقام جهيمان جنونه في جمع الأتباع واحتلال الحرم، الإشكال إذًا في "القابلية للكراهية"، ولنحذر فقط من أولئك المندسين الذين يقتاتون على هذه "القابلية" فكما حاربوا الحرية بالحرية، نراهم يحاربون التعددية بالتعددية فيمارسوا الطائفية تحت شعار "الحق في التعبير" عن "الكراهية" بطريقة "موضوعوية علموية"!

أولئك يتلاعبون بالمرايا ليعيدوا علينا لعبة تبادل الاتهامات، بينما الانشغال الحقيقي هو ما نراه من أطروحات أبناء كل مذهب عن نفسه، فالنقد الذاتي أصدق، وأوثق، وأكثر نبلا أمام النفس، وأمام الآخرين، ولهذا فالاحترام الحقيقي يكون لأمثال علي شريعتي في كل ملة ومذهب، أما لعبة البحث عن الجماهير، فتلك مهنة الطائفيين بامتياز، حتى ولو لبسوا ثوب الثقافة، ولووا ألسنتهم بالموضوعية، فكل من يتكلم عن طائفة دينية من خارجها سيقع في الخطأ، مع الوهم والخلط الكثير.