ما تولى الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز منصباً إلا ملأه حيوية وتجديدا وأضفى عليه جواً عصرياً وانتظاماً للعمل. هذا الرجل الجاد الصارم هو ذاته الشاعر الرومانسي الملهم، والرسام الفنان المبدع، والمفكر الحالم المتطلع دائماً للأفضل؛ وشعره المشتهر المتداول أمثالاً وحكماً إنسانية راقية سامية المعاني تشير إلى علو همته، ورقي فكره، ووضوح رؤيته، وصفاء بصيرته. والذين يعرفونه عن قرب أو زاملوه في العمل بشكل مباشر أو غير مباشر يعلمون ويقدرون هذه الصفات والقدرات والمهارات التي أنعم الله بها على هذا المسؤول الكفء.
إن النفس ذات الهمة والعزم ترهق صاحبها في صعوده الدائم للوصول إلى أعلى القمم عبر درجات العمل المخلص المتقن المميز. والأمير خالد مر في مسيرته الوظيفية بمحطات إدارية مركزية غادر كلا منها بعدما أعاد تأسيسها بمعايير ومفاهيم ريادية متطورة.
فهو رائد في مجال الشباب والرياضة عندما ترأس رعاية الشباب في بداياتها واستطاع تفعيلها في الزمن المناسب، وحقق طموحاً مهماً لشباب الخليج العربي بزرع فكرة دورة الخليج لكرة القدم التي تعتبر نقلة نوعية كبيرة لتطوير هذه الرياضة بما مكن شباب الخليج من الوصول إلى المنافسات العالمية، وكان يطمح لجعلها دورة أولمبية تضم كل الألعاب الرياضية.
وهو رائد في ميادين الحكم وفنون الإدارة الرشيدة بادئا بتولي إمارة منطقة عسير، تلك المنطقة العزيزة من بلادنا والتي تساوي مساحتها وسكانها وتضاريسها دولة مكتملة الأركان، عسير التي يعيش على أرضها الواسعة كثافة سكانية عالية جداً، وفيها عدد كبير من القبائل التي تمثل مصدراً ضخماً من المواطنين المبدعين الفاعلين في مجتمعنا الناهض. فقد اجتهد الأمير خالد ونجح في النهوض بتلك المنطقة المهمة وجعلها نموذجا يحتذى رغم كثير من المعوقات البيئية والجغرافية الصعبة، وما فعله هناك يثبت مهارته الفائقة في ترويض الصعاب بالتخطيط الاستراتيجي الموفق، والمتابعة بصبر وأناة ومثابرة فريدة.
كنت مديراً لمحطة تلفزيون أبها "حاضرة عسير" ثلاث سنوات وشهدت جزءا يسيراً من فترة إمارته التي تقارب الثلاثين عاماً. كانت محطة التلفزيون مسؤولة عن تغطية جنوب المملكة بالكامل (إمارات مناطق: عسير، ونجران، وجازان، والباحة)، وكل إمارة تعادل دولة مكتملة، نشاطات وحركة تنموية، وثقافية، واجتماعية هائلة، والتلفزيون مطالبٌ بالتغطية الإخبارية والبرامجية وتوصيل البث لكل المواطنين. وكانت مناطق الجنوب تسابق الزمن باتجاه الأفضل، لكن عسير تميزت بوجود الأمير خالد في تلك الفترة المفصلية. شخصيته القوية الصارمة مع رؤساء الإدارات الرسمية، تقابلها نفسيته الهادئة الرفيقة بالمواطنين. كان مع أوائل الموظفين في بداية الدوام، وقته موزع بين ساعات يكون مكتبه مفتوحا لجميع المواطنين المراجعين يستمع إليهم ويناقشهم ويقضي حاجاتهم، وبقية الوقت مع المسؤولين عن مختلف القطاعات يتابع عملهم ويوجههم (هذه عادة آل سعود المسؤولين عن الشؤون العامة)؛ وبعد صلاة المغرب يستقبل المواطنين في منزله، يدخلون بلا رقيب ولا حسيب، فيستمع إليهم في مجلس مفتوح للجميع، ثم يصلي معهم العشاء ويتناولون معه العشاء على مائدة يستكملون عليها الأحاديث فيما يريدون، ثم يدخل مجلساً خاصاً برؤساء الإدارات ليطلع على ما لديهم من أمور يرغبون في مناقشتها؛ وقد حضرت أنا جانباً من كل هذه النشاطات مع أنني أقل المسؤولين تفرغاً تبعاً لطبيعة عمل التلفزيون.
تواضعه ولطفه يمتزجان بهيبته ووقاره الطبيعيين؛ يشعر المرء معه أنه أمام إنسان في قمة الذوق والفخامة الفكرية والأناقة الأدبية الرفيعة.
أثناء عملي هناك، شهدت له مواقف إنسانية مضيئة كثيرة، سأذكر اثنين منها يدلان على بعض سمات شخصيته، الموقف الأول: حدثني أحد الزملاء العاملين معي في محطة التلفزيون أن قريباً له في منطقة الباحة يعمل مدرساً حصل له حادث مروري أصيب منه بشلل كامل لنصفه السفلي فلم يعد قادراً على قيادة سيارته لمكان عمله البعيد عن منزله، وأن شركة سيارات يابانية تجهز حسب الطلب سيارات للمعاقين يمكن قيادتها باليدين فقط، لكنه عاجز عن قيمتها التي تتجاوز سبعين ألف دولار، ومرتبه لا يكاد يكفي معيشته، وأنه يطمع في مساعدة الأمير خالد له ولو بمبلغ يعينه على دفع تكاليفها مع أنه يعيش في منطقة الباحة؛ فاتصلت بسكرتير الأمير وشرحت له موضوع الزميل، قال: "دعه يحضر التقرير الطبي والأوراق الخاصة بالسيارة وسأعرضها على الأمير، وانتظروا الخير إن شاء الله"، وبعد ما يقارب شهرين قال الزميل: "إن الأمير كان أكثر مما توقعنا، لقد أمر بجلب السيارة على حسابه الخاص، ووصلت فعلاً، والمدرس يستخدمها، وهو وعائلته يدعون للأمير كل وقت".
والموقف الثاني: لأحد الزملاء التقنيين "باكستاني" يعمل منذ عدة سنوات في محطة التلفزيون، وهو مستقيم ومخلص في مجاله، قال لي إن شقيقه الأصغر في باكستان مميز في تخصص الإلكترونيات ويرغب في استكمال دراسته في الولايات المتحدة، لكنه عاجز عن توفير التكاليف الباهظة التي تطلبها الجامعة، ومؤسسة الملك فيصل الخيرية توفر للطلاب المتفوقين من كل الجنسيات منحاً دراسية وفق شروط معينة، وأن الشروط تنطبق على أخيه، وطلب مني التوسط لدى الأمير خالد لتشمله المؤسسة كأمثاله من شباب المسلمين بهذا الفضل؛ فالتقيت بسكرتير الأمير وشرحت له طلب الزميل الباكستاني، وبعد عدة أشهر أبلغني ذلك الزميل بأن مؤسسة الملك فيصل تكفلت بمصاريف دراسته العليا بعد أن توفرت لديه الشروط، وأنه الآن يواصل دراسته العليا هناك على حساب المؤسسة، وأنه هو وأسرته يدعون للأمير وللملك فيصل رحمه الله.
ثم تولى الأمير خالد إمارة منطقة مكة المكرمة، ولقد وفقه الله للنهوض بواجب ذلك المنصب الحيوي الرفيع، والمتابعون المطلعون يعرفون مدى التطور الكبير الذي أحدثه في شؤونها الرئيسية بما يؤسس لنقلة نوعية عظيمة أخذت معالمها في الظهور في تلك المنطقة الكبيرة؛ والواقع أن كل من يعين في منصب كان يشغله هذا الرجل المميز يجد الطريق ممهداً والقافلة جاهزة لمواصلة السير إلى الأمام. ثم تولى وزارة التربية والتعليم وهي مسؤولية عظيمة لا يطيقها إلا أولو العزم والإرادة، وهو أهل لها ويملك كثيرا من مفاتيح أبوابها التي تفضي إلى ساحات عصرية أرحب وأجمل؛ وفور تسلمه مسؤولياتها بدأت ملامح التطوير والتحديث تظهر في مفاصلها الأساسية، وغادرها وقد رسم لها مستقبلا يحمل كثيرا من ومضات الإشراق لأبنائنا الشباب بحول الله وقوته. ثم أخيرا عاد أميراً لمهبط الوحي مرة ثانية ليواصل الإنجاز ومسيرة التطوير لأهم مناطق المملكة. خالد الفيصل القيادي "الفيلسوف والشاعر والفنان" يمثل قدوة صالحة للمخلصين الأمناء الطامحين للنجاح والفلاح فيما يوكل لهم من واجبات وأعمال وطنية نافعة، جزاه الله وأمثاله خير ما يجزي عباده الصالحين، وقواه وأدام توفيقه.