الأغلبية الساحقة من المسلمين عموما وغالب الإسلاميين خصوصا، لا تتفق مع المبادئ والسياسات التي تتخذها داعش اليوم، كما أن عددا كبيرا من العلماء والمثقفين المحسوبين على التيارات الإسلامية لم يتوانوا في نقد وإنكار الأفعال الشنيعة التي تقوم بها داعش من تكفير وقتل وغيرهما. ولا شك لدي أن داعش مجرد ظاهرة ستستمر فترة من الزمان إلى أن تصل إلى حد معين ثم تموت، فهي تفتقد أبسط مقومات الدولة الحديثة، ولا يوجد لديها حلفاء أو أصدقاء سوى استغلال الاستخبارات الأجنبية المختلفة لسذاجتها السياسية أحيانا ولخوائها المعرفي أحيانا أخرى!

ولكن ماذا بعد سقوط داعش؟ ما المتوقع أن يحدث؟ هل ستنتهي المشكلة ويتوقف التقاتل والتناحر بين أطياف المقاومة السورية التي تقاتل النظام الوحشي السوري ومرتزقة إيران؟ دعونا نتحدث بشكل أكثر وضوحا وتجرّدا؛ كوننا نناقش مصير أهلنا وأشقائنا ومنطقتنا أيضا، فأنْ نُخطئ في مراجعتنا لأنفسنا خير من أن نستمر في الخطأ الذي قد يكلفنا الكثير من الدماء والأموال؛ إذا نظرنا إلى أكثر التيارات فاعلية في الداخل السوري فسنجد أن كثيرا منها تنظيمات وجماعات تنتمي للإسلام السياسي أو الحركي -إن صح التعبير- ومنها المعتدل والغالي، ولكن ربما أن من أكثرها فاعلية هي جماعة النصرة التي سبق أن أعلنت انتماءها إلى منظمة القاعدة المتطرفة. كما أن في المقابل؛ هناك حزب الله الإيراني التسليح والولاء، وغيره من الحركات الشيعية المتطرفة أيضا، ولكن ليس هذا مكان نقاش الحركات المناهضة لحرية الشعب السوري.

السؤال الآن؛ هل ستقبل هذه الحركات الدينية السنية بدولة مدنية حديثة؟ للجواب على هذا السؤال؛ يجب مراجعة أدبيات تلك الحركات كي نخرج بتصور واضح، ولا يمكن الاعتماد على مجرد التصريحات أو التطمينات من البعض لمجرد استغلال الوقت.

الحقيقة أن هناك تخوّفا بأن الغالبية من تلك الحركات لديها أدبيات مناهضة لفكرة الدولة المدنية الحديثة، والمقصود باصطلاحي بـ"الدولة المدنية الحديثة" يعني الدولة التي تبني مؤسساتها بفكر شوري حقيقي من الناس، واعتماد الطريقة السلمية في طريقة الحكم والاختيار، والتعددية في السلطات واحترام حقوق الأقليات والحريات والمساواة وهكذا.

لا أعتقد أن شخصا يعرف أدبيات القاعدة مثلا ويشك بأنها لن تقاتل أي تجمع حتى ولو كان بجذور إسلامية لا يتفق معها في طريقة الحكم الظلامي الذي تدعو إليه، فهم في الحقيقة لا يختلفون عن داعش إلا أن الأخيرة أكثر عنفا وقسوة وإلا فإن الأصول والمبادئ واحدة، ومن المعلوم أن داعش كانت فرعا للقاعدة في العراق قبل أن تنشق. كذلك الحركات الأخرى التي تتبنى الفكر السلفي الجهادي؛ هل ستقبل بفكرة الدولة الحديثة واستحقاقاتها؟ فمثلا لو أن أغلبية الشعب صوت لصالح حزب علماني فهل سيقبلون بالرغم من أنهم يكفرون الحزب العلماني؟ الكثير يشك في حصول اتفاق دون اللجوء لقتال آخر حتى لو زال الأسد ومرتزقة إيران!

ماذا عن آلية الحكم في ظل رفض غالبية الحركات لفكرة الديموقراطية وصوت الأغلبية؟ حيث إن غالبية هذه الحركات تعتبر هذه الحرب مقدّسة على أساس أنها لأجل الانتماء والمذهب، وليس لأجل رد العدوان والحرية. فالقتال عندها قتال مقدس لأجل نصرة الفكر الذي يتبنونه وفرض الإسلام -حسب رؤيتهم- على الواقع فقط، وبالتالي فلا يتوقع الكثير -يوما ما- أننا سنجد هذه الجماعات نفسها تقبل بحزب لا يؤسس على أساس ديني حسب رؤيتهم، كما يشك الكثير في قبولهم لدستور يحفظ حقوق الأقليات والحريات والمساواة.

كذلك في صعيد العلاقات الدولية؛ فإن هناك شكا آخر في اعترافهم بالكثير من الأعراف الدولية واحترام المعاهدات والاتفاقيات، خصوصا أن تلك التيارات المقاتلة اليوم تعتبر إما تيارات جهادية أو تيارات تكونت حديثا، وبالتالي فهي لا تمتلك خبرة أو فكرا معرفيا تراكميا؛ مما يجعل مستواها الفكري على الأغلب ضعيفا، ويجعل تكيّفها مع التيارات المختلفة معها أكثر صعوبة.

الرسالة التي أود إيصالها في هذه المقالة السريعة أن الحوار الفكري والثقافي اليوم لمثل أفكار وتوجهات هذه التيارات أمر مُلِحّ، وفي غاية الأهمية إذا أردنا للدماء والحروب أن تتوقف بيننا، خاصة من الأشخاص المؤثرين على التيار الإسلامي أنفسهم، وإذا كان لهؤلاء جهاد؛ فأظن أن أعظم جهاد هو حفظ الدماء وحقنها وليس سفكها، فلابد للخطاب الإسلامي الثوري هناك من ترشيد وإعادة صياغة له، وهذا لا يمكن أن يحصل دون نقد ذاتي ومراجعات، أسأل الله أن يجنبنا وأهلنا في سورية كل سوء.