(أ)
بعد ما مر من عرض عن حال الخطاب العربي الراهن وحال الشيطنة الثقافية، فإن سؤالا يبقى حاضرا وسط الكلام كله، وذلك هو أن الوصف الإيراني لأميركا بأنها الشيطان الأكبر سيظهر أنه وصف صحيح، من غير أن تقصد إيران هذه الصحة التي نعنيها هنا، ولا شك أن تصرفات أميركا السياسية والحربية تبعا لها ظلت تسير على نمط واحد، وهو أنها تتصرف مع الأحداث حسب راهنها الظرفي المحدد، ولا تفكر بما هو وراء الحالة الراهنة، وكل تاريخها الحديث يشير إلى حماس جنوني ينتاب أميركا أمام قضية ما، وتندفع لها بكل ما أوتيت من قوة، ثم تأخذ بالنكوص عنها بأساليب متعددة، وكلها تحت عنوان (إنجاز المهمة/mission done)، وهو التعبير الذي يعلنه رئيس الدولة بصفته القائد العام للجيش، وحدث هذا فيما يخص أفغانستان، وفيما يخص العراق، وفي الحالين لم يتم إنجاز شيء غير تدمير البلد المقصود عمرانه، ومن ثم تركه يسقط في يد إيران، وهذه هي خلاصة الأحداث الماثلة للعيان، ولم يحدث لأميركا أن تحملت مغبات أخطائها، مع كل اعترافاتها المتأخرة بأخطائها، والأدهى أنها تكرر الخطأ نفسه مرة تلو مرة مع أي حدث تتولاه مندفعة بداية ثم متخلية عنه في النهاية، ثم تتبعه باعتراف بأن سياسة التدخل أو سياسة الانسحاب كانت خاطئة، وأن المهمة لم تنجز أصلا.
(ب)
ولنا أن نستعرض الحالة الأفغانية وسنرى كيف جرى إنتاج مصطلح الإرهاب، وقد جاء عبر حكاية ابتدأت في الثمانينات من القرن الماضي، وفيها لحظة من لحظات الشاشة الصارخة، ثم تكررت اللحظة نفسها بعد عشرين سنة في صورة على الشاشة تشترك مع الأولى في أن كلا منهما كانت في البيت الأبيض، ومع الرئيس الأميركي، وما بين الصورتين ليس عشرين سنة من الزمن، ولكنه عشرون سنة ضوئية من التحول الدلالي، حيث يتحول المناضل إلى إرهابي، وتبدأ عملية إنتاج المعنى وتحويله حسب قوة الصورة وليس حسب قوة المنطق ولا البرهان.
الصورة الأولى كانت لرونالد ريجان مع الثوار الأفغان، حيث ظهر الجميع في الصورة تحت معنى (المناضلون ـ Freedom fighters)، والثانية لجورج دبليو بوش وهو يعلن الحرب على محور الشر، وأوله أفغانستان وستأتي صور الأفغاني بوجهه ولباسه لتتغير من مناضل إلى إرهابي.
صورتان تتحولان لمجاز ثقافي كوني سيحتل التصور البشري للسنوات المتعاقبة بعد ذلك ...
كيف تحول الأفغاني المناضل إلى إرهابي ....!
لقد مر على الثقافة البشرية نموذج يتطابق منطقيا وعمليا مع النموذج الأفغاني وهو الحرب الأهلية في إسبانيا (1936 ـ 1939)، وهي الحرب التي تحولت لتصبح نصا روائيا يمجده كل البشر، وهي رواية (لمن تقرع الأجراس) لهمنجواي، وقد كان بنفسه مقاتلا متطوعا في صفوف اليساريين وكان الكل مدعوما من الخارج، حيث يأتي السلاح والمال والدعم الأيديولوجي والبشري ويتقاطر المتحمسون للنضال اليساري نحو إسبانيا قادمين من كل أنحاء أوروبا بدافع عقائدي يساري وبدعم منظم، وحين انتهت الحرب صارت تاريخا معنويا ونضاليا لكل من شارك فيها وتحولت إلى نص روائي عظيم وعالمي، وله إيحاءات معنوية وأخلاقية وإنسانية عالية.
لماذا لم تتحول القضية الأفغانية لنموذج مماثل، مع التشابه التام بين الحالين، وكلتاهما أيديولوجية ونضالية وشبابية ومدعومة من الخارج، ولكن واحدة صارت أدبا عالميا والأخرى صارت نقمة ثقافية!
لا شك أن أفغانستان قد مرت بمرحلتين تختلف إحداهما عن الأخرى، ولا شك أن الصورتين الواردتين عن البيت الأبيض فيما يخص أفغانستان تحملان أسبابا قوية للاختلاف بين واحدة وأخرى.. ولكن هذا ليس هو السؤال. وإنما السؤال عن الصورة الأولى التي طرحها ريجان عن مناضلي أفغانستان، وما جرى لهذه الصورة تحديدا، حيث حرمت من نهاية كنهاية النضال اليساري ـ مع أن أميركا ضد اليسار وضد الحشد اليساري في إسبانيا، في حين كانت مع النضال الأفغاني وهي من تبنته -.
لقد تم مسح الصورة النضالية الأفغانية وحلت محلها الصورة الإرهابية حتى للذين لم يدخلوا للمرحلة الثانية، أي صار كل من له تاريخ مع أفغانستان الأولى في حكم الملاحق والمشكوك فيه والمراقب دوما، وتحول من مناضل شريف إلى مشبوه تكتب عنه التقارير الاستخباراتية وترصد حركاته وكلماته ويتضخم ملفه السري، بدلا من أن يتحول بطلا في رواية لهمنجواي الأفغاني!.
هذا ما فعلته الوسيلة حيث غيرت معانيها وحولت الدلالات والمصطلحات حتى لم يبق أثر لأي صيغة نضالية عن أفغانستان.
وما حدث لأفغانستان هو نفسه ما حدث للعراق، من 2003 وما بعدها حيث تخلقت البيئة الملائمة لانتشار النفوذ الإيراني وتصدير الثورة، وفي مقابلها نشأت جماعات ولدتها ظروف الفوضى الموروثة من الأخطاء الأميركية التقليدية، وهي أخطاء مازالت أميركا تنتجها وترعاها بسلوك هو أقرب للغباء السياسي، وأبعد من مجرد غطرسة العظمة والدولة التي لا يقوى أحد في العالم على محاسبتها أو تحميلها مسؤولية أخطائها وتدخلاتها، وهنا يكمن الشيطان الأكبر في متن الأحداث، وليس في تفاصيلها، ولولا أخطاء أميركا لما تسنى لإيران أن تصدر ثورتها، كما هي سيرة الأحداث، ومآلات التوحش الثقافي.