تحدثنا في مقال سابق عن الأنا والحب، ورأينا التناقض العجيب بين كثرة ما يسوق لنا عن الحب في صور استهلاكية على القنوات التليفزيونية والشاشات السينمائية والمجلات والروايات وقصص الحب الغرامية، وبين الممارسات الفعلية للحب الصادق الحقيقي بين أفراد المجتمعات الإنسانية.

وعرفنا أن سبب فشل الأغلبية العظمى من البشر في كل أنواع وصور الحب، هو أنهم لا يعرفون كيف يمارسون فن الحب في حياتهم، وأن الحب رعاية ومسؤولية واحترام ومعرفة، الرعاية تتجلى في الاهتمام الفعَّال بحياة ونمو ذلك الذي نحب، وإذا نقص هذا الاهتمام الفعال فيكون الحب ناقصاً، وما يقصد بالمسؤولية ليس الواجب الذي يفرض علينا من الخارج، ولكنه الفعل الإرادي الذي يصدر من الداخل، أن أكون مستعدا لأن أستجيب لاحتياجات الإنسان الآخر سواء عبر عنها أم لم يعبر.

وهنا نبين أن المفهوم الخاطئ لمعنى المسؤولية يمكن أن ينقلب إلى سيطرة وهيمنة وتملك إذا لم يلازمهما الاحترام، أي رؤية الشخص كما هو ومساعدته على أن ينمو بطريقته هو، أن تصبح ومن تحترم شخصا واحدا، لا كما تريد أنت ولكن كما يريد هو، ولا يكون الاحترام بدون معرفة عميقة تنفذ للب، فمنها نستطيع أن نرى الآخر في إطاره.

إن الحاجة الرئيسية الفطرية لحب الناس هي الخروج من سجن الانفصال والاندماج والاتحاد مع الآخر، هذا الانفصال الذي حاول إنسان اليوم أن يعالجه بطرق فاشلة بائسة يائسة بالمسكرات والمخدرات والانغماس في الجنس والملذات وروتين العمل والتطابق والتماثل القطيعي، بل والتوحد مع أعمال الإنسان الإبداعية، ولكنها كلها حلول جزئية ومؤقتة أو زائفة، وليس من حل كامل لتحقيق الوحدة مع الإنسان ومعالجة الإحساس بالانفصال القاتل المدمر إلا عن طريق الحب الصحيح الناضج، إنه الحب الذي لا يسيطر عليه الخضوع أو الهيمنة، وإنما أن يصبح الاثنان واحدا ويظلان كذلك اثنين، إنه الحب الذي أساسه حب أخي في الإنسانية، إنه حب الإنسان لأخيه الإنسان، إنه الشعور بالمسؤولية والرعاية والاحترام والمعرفة تجاه أي إنسان آخر.

إنه الحب لكل إنسان فيه نفخة الرحمن، إنه حب قدواتنا الأنبياء في حبهم للناس، حب ليس استثنائيا، حبنا للمساكين والفقراء، حبنا للأيتام والضعفاء والغرباء، حبنا للهداية لمن ضلوا السبيل وإحساسنا بالمسؤولية تجاههم.

يصف إيريك فروم هذا الحب في قوله: (وفي حب أولئك الذين لا يضيفون شيئا في تحقيق فوائد وأغراض مادية لنا، أي لا منفعة ومصلحة مادية لنا في حبهم، يكون الحب قد بدأ حينئذ فقط بالظهور).

تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ربط فيه الإيمان بالحب في قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم. كنت أفهم أن المؤمن يجب أن يحب لأخيه الإنسان ما يحب لنفسه ليكتمل إيمانه، واليوم أفهم بعدا آخر، إن طريق الإيمان يبدأ بالحب لأخي الإنسان، إنه الحب الذي أدخل الله به الجنة رجلا في كلب سقاه، فما بالك بحب الإنسان للإنسان؟.

أدركت في بحثي أن حب الآخرين وحب الإنسان لذاته ليسا بديلين أو متقابلين، فالحب لا يتجزأ وإنما الخلط جاء من عدم التفريق بين حب الذات الحقيقية (نفخة الرحمن التي فينا) وحبنا للأنا التي فينا أي (الأنانية). حب الذات والأنانية ضدان، الشخص الأناني لا يحب ذاته بل يكرهها؛ ولأنه يفتقر للإعجاب بها والرعاية لها فإنه يصبح خاويا محبطا من الداخل، فيحاول عبثا أن يعوض فشله في العناية بذاته بالتكالب على الماديات واللهث وراء استلاب وسرقة كل ما يستطيع من العالم من حوله لملء فراغه الداخلي ولكن دون جدوى، أما الذي يحب ذاته حبا حقيقيا نابعا من روحه، فإنه يحب لكل شخص آخر كما يفعل إزاء ذاته، وهذا الحب بالذات لنفخة الروح هو الحب الإلهي الذي فينا، وبه يحب الإنسان ذاته وأخاه في الإنسانية، حبا لله وفي الله وبالله الذي خلقنا من نفس واحدة ولا طريق للإيمان غيره كما أكد الحديث (حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

إنه الإحياء عن طريق الحب، وإحياء النفس بالحب هو إحياء لكل الإنسانية (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). يقول غاندي: (أينما يتواجد الحب تتواجد الحياة)، ويقول مارتن لوثر كينج: (الكراهية تشل الحياة والحب يطلقها، والكراهية تربك الحياة والحب ينسقها، والكراهية تظلم الحياة والحب ينيرها).

فالحب هو الذي يحررنا من فرديتنا، وبه نفرق بين الحب الصادر عن الذات وبين الحب الصادر عن (الأنا). (الأنا) الأنانية المرض المكتسب الذي يصل إلى حد متضخم متفاقم في صورة نرجسية والتي هي سجن لصاحبها وقتل للحياة فيه وحوله.

سألت نفسي: متى يبدأ الإنسان في الحب؟ يولد الطفل فيكون أول حب يعيشه هو حب الأم، وهو حب غير مشروط يحيطه بالحماية والرعاية والأمان، ثم حب الأب عندما يصل السادسة من عمره، فلا يكفيه الحب غير المشروط فيسعى لاكتساب حب الأب المشروط المكتسب بالعمل، وبذلك يتوازن حتى ينضج ويتحرر من الصورة الخارجية لتحكم الأم والأب، ولكنه يجعلهما ضميرا داخليا يعمل به، الضمير الأمومي في مقدرته على تقديم الحب غير المشروط للآخرين، والضمير الأبوي الذي به يحاكم نفسه وتصرفاته ويحاسب أعماله، ومنهما ينطلق في مرحلة النضج للحب الإلهي تجسيدا لمبدئي الحب والعدل في نفسه وحبه للجمال الذي لا تكتمل صورته إلا في (خالقه)، والإنسان الذي لم يخرج من التعلق الشديد بالأم وصورها مثل القبيلة ولم يخرج من اعتماده الطفولي على الأب المعاقب المثيب وصوره من سلطة أخرى، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى مرحلة النضوج في حبه لله.

الآن أفهم الحكمة الإلهية في أن يقرن سبحانه عبادته بالإحسان للوالدين في قوله تعالى: (وَقَضَى? رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، بل ربط حب الذات بحب الوالدين في الصلاة في الجلوس بين يديه سبحانه في قوله: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ)، فبداية الحب عند الإنسان بشرية وهذا ما أكده الغزالي في حديثه عن الحب، حين قال: "بداية الحب عند الإنسان بشرية، فلا يبدأ الإنسان بالحب إلاّ إذا أحب ما يعرفه، وأوّل ما يعرفه هو ذاته ويبدأ بهذا النوع من الحب الأرضي والذي سيرتفع بواسطته إلى أنواع أخرى من الحب تكون محصّلته حبّا أسمى من الحب البشري".

إنه الحب الذي به يعرف الإنسان ذاته، ومنه يعرف ربه، والذي عبر عنه سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه في قوله: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).

وصلت إلى نهاية رحلتي مع الأنا والحب.. حقا من عرف ربه حق المعرفة لا يسعه إلا أن يحبه ويتقرب إليه بما فرض عليه طوعا وحبا وشوقا حتى يصير كما وصفه الحديث القدسي: (مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلئنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) صحيح البخاري. إنه الحب أقيم ما في الأرض، منه أتينا وبه نؤمن ونحيا.