لم أظن يوما أن أمي ستكون مادة للكتابة؛ لأنها دائما أمي وحسب.. كما لا أتخيل أن تكون خصوصية أيامي ولون الدنيا في عيني كل صباح أو مساء مادة لذلك.. لكن أمي لم تعد هناك فلا بد أن أكتب!
أمٌّ أنا وأمثل الكثير لأبنائي وبناتي لكن أمي مختلفة عن كل الأمهات حتى عني!
كان العيد يعني لها كثيرا حين تعد الأضاحي وتحضر أدوات الذبح وتترحم على الأموات، وتؤكد لنا أنهم ينتظرون العيد ويفرحون بالصلة وتوصينا بالترحم عليهم. هذا العام يأتي العيد وأمي لا تعي الزمان ولا المكان إلا لماما؛ انسلخت من الحاضر أصبحت تعيش مع الأموات أكثر مما تعيش مع الأحياء، لم تعد ذاكرتها لها الماضي إلا تعلقا وبحثا عن الراحلين! كانت أمي عيدنا هذا العام لم يعد لنا عيد بعدك يا أماه.
أمي مذاقات الطعام الشهية، بل مذاقات الحياة الفاخرة، النصائح والتوجيهات التي جعلتني أتسامح مع خطأ طالبتي عندما أعلم أنها بلا أمّ، وبالتالي فهي لا تحسن التصرف. والتسامح باب عظيم من أعظم الأبواب التي فتحتها لي أمي، ولو وصفتها بكلمتين لقلت امرأة معطاء متسامحة.
أمي شظف العيش في تربيتنا، دموعها التي تودع بها المسافرين حزنا وتستقبلهم بها فرحا.
دعوات صالحة ترتفع بها يداها بحرارة في كل محنة وسفرة وشدة بل ورخاء. من دعاء أمي عرفت أن أسهل طريقة لتغيير قدر أبنائك الدعاء، كان في تذللها وحرقتها بعد كل صلاة ما يعطينا الخير ويعصمنا من الشر، تدعو للمسافر فيعود، وللمريض فيشفى، وللمحروم فيغنى، اكتشفت لاحقا أن الأمهات العظيمات فقط من يفعلن ذلك، وأن الخالق جعل لنا الأم لنرى رحمته على الأرض.
كانت توفر لنا ما نحب وتضن به على نفسها، تصنع الطعام وتستمتع بأن ترانا نأكل مؤخرا، فقدت قدرتها على صنع الطعام الذي لم نتخيل يوما أننا سنفقده، كان أحد الجيران في الطفولة يطلق أمانيه المعلنة أن ترسل له أمي من طعامها الذي تطبخه.. في الولائم كان الرضا وكان الثناء عليها لا ينقطع، ما زلت لا أتمنى طعاما كانت تصنعه أمي أبدا من أحد إلا منها.. وأراه من غيرها أشباح طعام.
كنت أتعجب كيف تعرف اسم المتصل من إخوتي قبل أن ترفع السماعة، لكنني ورثت عنها شيئا من تلك المهارة، وعرفت أن عقول وحركات الأبناء وسكناتهم وأسرارهم تسكن في الأمهات.
توفي أبي ونحن ما زلنا على أبواب الحياة، فأكملتها كما كان مخططا لها في حياة أبي، تحملت تكاليف زواج الأولاد، ورعت الأحفاد، ما زالت في مرضها وغيبوبة ذهنها التي ألبستها سواد الحزن لا تبتسم إلا حين ترى محمد أصغر الأحفاد، وتحاول أن تحمله ثم تنوء سريعا به يداها.
حاولت إقناعها بأمر فرفضت، أقسمت بحياة أبنائي فعاد وعيها واستجابت وهي تدعو لهم بالسلامة وطول العمر، مع أنها لم تعد تعرفهم لكن قلب الأم لا يفقد ذاكرته.
في مسارات حياتنا وجهتنا وحلت لنا أزمة السكن بطريقة ألتفت حولي فلا أجد أمًّا غيرها فعلتها، ولم تجعلنا ننتظر كما يفعل الآخرون، لم تكن يوما ثرية إلا بنا ولم يكن ثراؤنا إلا أمي.
أكثر ما أفتقده حواراتنا الصاخبة التي تنتهي بأن يثبت أن رأيها هو الصواب، ورغم هذا كانت تؤمن برأيي وتحدثني كثيرا، نختلف ونتفق لكن علاقة الخلاف كانت ميزة لي معها. كنت أواجه قلقها علي بالانطلاق وكانت تحيطني بالدعاء. يؤلمني اليوم عندما غاب ذهنها، أنني خالفتها في أمور كثيرة وكان الأولى أن أوافقها، ليتني لم أقل لها قط لا.
أحيانا الأطباء يختزلون الحقائق في معلوماتهم الطبية، ففي الأسبوع الماضي كنت معها عند الطبيب الأميركي الذي حول حياتها إلى رقم، لكن أمي ليست رقما فرديا، أمي تمتد فينا إلى ما لا نهاية.
كانت أمي عبقرية في الحساب رغم أنها لم تتعلم! وهذا ألم سكنني من سنوات كيف لم أتفرغ لتعليمها الكتابة في عمرها الطويل معي؛ كانت تردد (لو كنت تعلمت لما غلبني أحد) أمنية بالعلم، لكن صدقيني يا أمي أنه لم يغلبك أحد أبدا.
أمي.. أحببت أن أكتب لك هذه الكلمات وأعدك أن أقرأها عليك، وأعتذر على كل لحظة خذلتك فيها حتى عندما تتعلقين بي وأنا أعود من صحبتي اليومية لبيتي لأنام وأخجل مما تخبرينني به من قلقك عليّ في اليوم التالي؛ فخوفك أبدا لا ينام، فما أعظمك!