الشفاهية بوابة التخييل العظمى، التخييل المدون يكون تخييلا ساكنا مكبلا بكتاب، تخييل تخلَّق مع كل راو ثم لما جرى تدوينه ثبت على ما تم تدوينه عليه، لكنه في حالته الشفاهية يكون مكينة تخييل لا تتوقف، وإني آمل فهم التغريبة وفق هذه الفرضية، فالسيرة الهلالية المدونة قد تم تثبيتها على آخر حالاتها بينما السيرة الهلالية الشفوية ظلت بلا قيد تجوب الصحارى والقفار حتى شغل الناس عن تناقلها بما استجد في عالمهم من بيئات تخييل مختلفة في أدائها مختلفة في أساليبها كالإذاعة والتلفزيون وسواهما.

لقد أدرك جمّاع الأحاديث النبوية الشريفة خطورة الرواية الشفاهية فقيدوها بضوابط، وأدرك المؤرخون العظام خطورة التخييل التاريخي على التاريخ فجابهوا أهل ذلك التخييل مجابهة قوية وأطلقوا عليهم وصف الإخباريين عزلا لمنتجهم التخييلي عن المنتج التاريخي المنهجي أو ما هو في حكم المنهجي، فعلوا ذلك مع الإخباريات العربية الأولى المتمثلة غالبا في كتابات عبيد بن شَرِّية ووهب بن منبه وأبي مخنف الغامدي، حالوا بينها وبين التأريخ الذي حرصوا على أن يكون صحيحا ولا أقول رسميا.

وقد وصف الدكتور عبد الله العسكر مؤلفات هذه الحزمة بالتاريخ الشعبي، وعدها مجرد روايات شعبية يتداولها الناس كما يتداولون القصص والحكايات، فيها مقدار غير يسير من الوضع، والخرافة، والمبالغة والخيال، وتفتقر للرابط الموضوعي، وتسودها البنية الحكواتية، وأساسها الإخباري هش، وتكاد تخلو من المضامين العقلية، وليت ما قاله الدكتور العسكر في الأسطر السابقة قد قاله المتقدمون، فقد رسم بما قال هوية مناسبة لتلك الإخباريات، ولو سبقه سابق لامتدت تلك الهوية لتشمل الحزمة الثانية من حزمة التخييل التاريخي العربي وهي الحزمة التي تتكون من السير الشعبية ومن بينها تغريبة بني هلال. ويتضح لنا أنه حتى (ق 8 هـ) لم تقيد التغريبة بقيد التدوين بل كانت طليقة تطير بأجنحة من شعر أورد ابن خلدون مقاطع منه، ويبدو أن التغريبة كانت رائجة شعرا في بلاد المغرب العربي رواجها في بلدان الهلال الخصيب، وربما انطلقت من هناك إلى الجزيرة العربية وربما كان العكس صحيحا، لا فرق ولكن المهم أن التغريبة بدأت شفاهية وبدأت شعرا على الوزن الذي لا يزال معروفا حتى الآن وهو الهلالي الذي يتنفس من رئة بحر الطويل، غير أنها حتى في زمن ابن خلدون في القرنين الثامن والتاسع لم تكن معروفة القائل، بل كان ابن خلدون يقول ومن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم، أو على لسان سعدى ابنة الزناتي، مع أنه قد أورد مقاطع في مناسبات مختلفة منسوبة لشعراء بأسمائهم مثل سلطان بن مظفّر بن يحيى الذي وصفه بقوله: من الزواودة أحد بطون رياح.

 


صلب الحكاية

التغريبة كلمة جاءت من السفر غربا وهذا ما عليه أغلب الآراء، لكنها تعني أيضا الإمعان في السفر ليبدو ذلك السفر وكأنه قد انطوى على فاجعة، وفي الواقع فإن تغريبة بني هلال لم تحمل ذلك الاسم إلا في عصور متأخرة، حيث كانت في مبتدأ أمرها أشعارا يتداولها الناس، وعندما طبعت للمرة الأولى منذ قرن ونصف جاءت تحت اسم "الزيادة البهية وما جرى للأمير أبي زيد والعرب الهلالية"، ثم صدرت منها طبعات باسم "السبع تخوت وسلطنة دياب وأبي زيد وتملك الأربعة عشر قلعة من بعد قتله الزناتي خليفة وهي أحسن سيرة لبني هلال"، وهي أول مرة يضاف فيها بنو هلال إلى عنوان السيرة وكان ذلك في عام 1298هـ، ثم تتابعت الطبعات بعدئذ حتى صدرت بعد أقل من عقدين تحت مسمى تغريبة بني هلال.

والتغريبة تاريخا تنطلق مع حركة قبائل بني هلال وغيرهم من عرب الصعيد نحو الغرب باتجاه شمال أفريقيا ولكن التغريبة تحاول البدء من جذور الحدث الأولى من الجزيرة العربية ثم الشام وصولا إلى مصر، لكنها تمر على تلك الجذور مرورا عاجلا مرتبكا بينما توغل في تفاصيل الأحداث التي كانت في تونس وما يصاقبها من الديار.

تطرح التغريبة ظاهرة الجفاف كمبرر للهجرة، ثم تمضي بعد ذلك في سرد المداولات التي طرحت أفكارا في مواجهة تلك الظروف القاسية، وهي المداولات التي أسفرت عن إقرار فكرة النزوح على أن تسبقها بعثة ترتاد الطريق، رأس أبو زيد تلك البعثة التي وصلت إلى هدفها النهائي في تونس الخضراء بعد أحداث كثيرة وقع بعدها أفراد البعثة الهلالية في أسر الزناتي خليفة، غير أن قائد البعثة أبا زيد الهلالي تمكن من الإفلات فعاد إلى بني هلال في نجد، غضب الهلاليون لاعتقال أبنائهم فقرروا غزو تونس ومنها بدأت حركة نزوحهم نحو تونس الخضراء، وهي الحركة التي تبعت خطا مشابها لخط سير البعثة الأولى، خط يستعصي على المنطق الجغرافي لكنه قد أخذهم إلى تونس كما أخذ البعثة من قبلهم وقد وصلوا إلى تونس بعد حروب امتدت من أطراف الجزيرة العربية حتى الشام ومصر وصولا إلى شمال أفريقيا.

استأثر الهلاليون ب 15% من المسميات الواردة في السيرة مثل: السلطان حسن بن سرحان، أبو زيد الهلالي، علياء، ذياب بن غانم، القاضي بدير، الجازية، مرعي، يحيى، يونس، عزيز القوم، وطفا بنت ذياب، أما غير الهلاليين فمنهم: الغطريف، عامر الخفاجي، الخزاعي، شبيب، البردويل بن راشد، الخرمند، الماضي بن مقرب، التمرلنك، الدبيسي بن مزيد، مغامس بن عامر، شاة الريم، سعيد العبد، شكر الشريف بن هاشم، ذؤابة بنت عامر الخفاجي، الملك جوهر ملك الحبشة، الفرمند بن متوج، الزناتي خليفة، سعدى بنت الزناتي. هؤلاء جميعا ما هم إلا شخصيات افتراضية لا أصل لها في كتب التاريخ ولا كتب الطبقات والتراجم وكتب الأنساب، وخريطة التغريبة تعاني من ارتباك في مسارات الرحلة، إن الطريق بين الجزيرة العربية وتونس لا يحتاج إلى هذا القوس الكبير من البلدان إلا في حال أراد مؤلف التغريبة أن يستعرض معرفته بالبلدان وهذا مباح له باعتباره يكتب تخييلا، وربما كان المؤلف تونسيا تقل معرفته ببلدان المشرق، وفي جميع الأحوال فهو لم يبتعد كثيرا عن الخريطة المتداولة آنذاك فإن كانت الخريطة وراء ذلك فالمؤلف إذن لم يكتب الرحلة من واقع بل من خيال خاصة في جانبها المشرقي.

 


خيال الظل







لخيال الظل دوره في نشوء فكرة تدوين التغريبة، فإن الخيّالين كتبوا التمثيليات التي كانوا يسمونها "بابة " لتقرأ خلال عروض خيال الظل، وقد ترك ابن دانيال (ق 7 هـ) مخطوطات من بينها واحدة عن سيرة عجيب وغريب وهي من ضمن السير الشعبية المعروفة، كان خيال الظل يقوم على حكاية يقرأها أحدهم ويحرك دمى جلدية ملونة تمثل الأدوار ومن هنا نشأت فكرة التدوين لحاجة اللاعب نفسه، ومع إقبال الناس على هذا الضرب من اللهو تزايدت المقاهي التي توفره لزبائنها، وزاد التنافس بين أصحابها على تقديم الأكثر جذبا للمتفرجين من الحكايات وهذا يفسر هذا العدد من السير الشعبية التي كانت تموج بها مكتبات الماضي القريب.

 


تعدد الدول التي تدعي انتساب الهلاليين إليها


1-أسطرة القبيلة وفرسانها

ملمح تخييلي


تتعدد الدول التي تدّعي انتساب الهلاليين وفارسهم أبي زيد إليها، وهذه حالة صحية تناسب التخييل تماما، ذلك أن التخييل قد "أسطر القبيلة" و"أسطر فارسها وسائر رجالها"، والتحول للأسطورة يجعلها ملكا مشاعا لكل الناس، فأهل "شبوة" يقولون لك إن السلطان حسن بن سرحان والفارس أبا زيد هما من أهل شبوة ثم يأخذون بيدك إلى آثار بني هلال وقصر حسن بن سرحان، وهم محقون فيما ذهبوا إليه، وأهل نجران لديهم نفس الرؤى وهم محقون أيضا، ويأخذ بيدك أهل الطائف إلى ملعب أبي زيد حيث كان يعسف خيله هناك وعلى مقربة منه مقعد نحت في الصخر، هو مقعد علياء الذي كانت تجلس عليه لمتابعة تمرينات حبيبها أبي زيد الهلالي، وأهل الطائف على حق فيما قالوا، ومثلهم أهل نجد العذية التي يأتي ذكرها كثيرا في أشعار بني هلال وذكر بعض جهاتها أيضا، ومثلهم أيضا أهل تربة البقوم الذين تجد ملامح ديارهم في أشعار لأبي زيد على روايتهم، وسبيع بن عامر يتمسك رواتها بصلة القربى مع بني هلال وموافقة الجغرافيا الهلالية لمواقع تجاورهم، وسيأخذ أهل الباحة بيدك إلى حيث قصر الأمير حسن بن سرحان العبيدي ضمن خرائب بلدة معشوقة وهناك سترى اللعبة التي كانت تتسلى بها علياء عند باب قصر أبيها، وبادية الباحة يقولون إن حسن بن سرحان عبيدي بفتح العين نسبة لعبيدة وهي بيده التي كانت تسمى أولا أبيده ثم تحور الاسم إلى عبيدة ثم إلى بيده حاليا، وكل هؤلاء على حق بطبيعة الحال.


2-تعدد الأسباب من سلخ البقرة

إلى نار المدينة


تعدد أسباب الهجرة الهلالية بين الجفاف الذي ضرب مواطن بني هلال، وبين نار حرّة المدينة وبراكينها، وبين العقاب الإلهي وحتى الغضب الإلهي تعدد تبريره، بين قطعهم للسابلة، وبين سلخهم لبقرة حية، وبين إنشاء قنوات من الخبز من أعلى الوادي حتى أسفله ثم سكب السمن لينساب مثل ماء في جدول فيأكلوا منه فإذا شبعوا فليدوسوا عليه بخيلهم ورجلهم، كل هذا يؤيد المنحى التخييلي للتغريبة.


3-الطريق بين قوس التغريبة

ومسرى البدو


تعدد المسالك التي اتبعوها في هجرتهم بين رواية وأخرى، فالتغريبة المكتوبة تفترض قوسا يمر بالعراق ثم الشام، والرواية النجدية تتفق مع ذلك، وتجد رواية البقوم في الأبيات التالية:

سرحنا من العبلاء شريقٍ من الضحى

علـى نضواتٍ مشيهـن هَـمَـام

ومرن بنـا وادي كـرى علّـه الحيـا

واد ٍعــذي مـا هــــو بواد هـيــام

وعطينا مع الصلعاء تواجــــف

ركابنا صيام وأيضاً الناجيات صيام

ومرينـا البقـوم بقـوم ابـن يعرب بقـوم ليـا شــــــــح الـزمـان كــرام

العبلـة البيضـاء عطـينـا فراعـهـا الضلـع شـرقٍ والحمــــــاده شــام

أما الرواية البدوية المتداولة في جهاتنا فقد عبرت منطقة الحرات المحصورة بين الهضاب الشرقية والجبال الغربية حتى وصلوا الشام، وهذا ليس من قبيل الاختصار على اعتبار أن الشعر يجنح للاختصار غالبا، ولكن لأن بدو المشرق أدرى بمسالك ديارهم، ولذلك قال أبو زيد الهلالي يصف مبتدأ الرحلة:

سرينا مع الحرات تسعين ليله ... نقاود الطوعات خلف الجهايم

إن المقارنة بين التغريبة كما طبعت خارج الجزيرة العربية وبين مرويات بني هلال المتداولة داخل الجزيرة العربية لتضع أعيننا على جماليات مختلفة تماما عن تلك الجماليات التي تصنعها التغريبة المطبوعة، كما أنها تضيف لنا إصرارا آخر على قولنا منذ البداية إن التغريبة في عهدة التخييل وليست مرجعا تاريخيا يعول عليه.

أما رواة بدو غامد فإن الرحلة في روايتهم قد سلكت طريق الحرة إلى بلاد الشام:

سرنا مع الحرات تسعين ليله نقاود الطوعات خلف الجهايم

بينما يرى حضر غامد أنها قد "زاعت" من أثرب (جبل جنوب سراة غامد) و"قالت" في حلب ويروون شعرا لأبي زيد:

تركنا ديار العز في قاعة اثرب ورحنا حلب والحال حال جميل

ديارٍ بها ســتي وسيدي وسـيّدي ديارٍ بها صــعب الرجــال ذليل

وهذا أمر قد استحضره المرحوم أعمى قذانة (شاعر شعبي معاصر من الباحة) عندما قال: حي بو زيد ذا زوّع من اثرب وقيل في حلب ثم صبّح شبيب وزعزعه من محلاته وعمّك والزناتي خليفة قال شــدّ الركـاب وغيرنا


4-شخصيات تاريخية

خارج أقواس التاريخ


ذلك الحشد الكبير من الأسماء التي لا يدعمها نص تاريخي أو وثيقة تاريخية فهي شخصيات افتراضية على غرار ما نجده اليوم في الروايات، هناك شخصيات تتحدث عنها التغريبة مثل الزناتي خليفة ومثل الشريف شكر حاكم مكة وهي شخصيات هامة لا تقبل افتراضا أو إيهاما لمكانتها التاريخية فيما لو كانت التغريبة تاريخا، ومع ذلك فلن تجد لتلك الشخصيتين أثرا في كتب التاريخ، ولا تفسير لذلك إلا بفهم الطبيعة التخييلية للتغريبة.

. باحث في التراث