في بدايات القرن السادس عشر، استطاع الإسبان غزو بيرو والتغلّب على إمبراطورية الأنكا، وبدأ ذهب تلك الإمبراطورية الغنية يصب في مدن إسبانيا، ما حفز الكثيرين من أبناء شعبها كي يحلموا بالثراء السريع الذي من الممكن نيله في العالم الجديد. صنعت تلك الأجواء أسطورة تتحدث عن زعيم من الهنود الحمر يغطي جسده كاملا بتراب الذهب قبل أن يغطس في بحيرة مائية بشكل طقوسي مرة كل عام. تطورت بعد ذلك أسطورة ذلك الرجل الذهبي أو (إل دورادو) كما كان يسميه الإسبان، إلى الزعم بوجود مملكة تعود إلى (إل دورادو) نفسه، حيث كل شيءٍ فيها مرصع بالذهب. وسرعان ما انتشر الإسبان الباحثون عن إل دورادو في شمال أميركا اللاتينية.
كان (جونزالو) من أشهر أولئك الباحثين حيث قاد أكبر حملة لتلك الغاية حتى ذلك الحين. حيث خرج من الأكوادور نحو الشرق بثلاثمئة وأربعين إسبانيا، مصطحبين معهم أربعة آلاف هندي لحمل مؤنهم، والعمل معهم ككشافة، وأربعة آلاف خنزير، وعشرات من حيوانات اللاما وحوالي ألف كلب. كان جونزالو يستجوب كل الهنود الذين يعثر عليهم في طريقه، ولأنه كان يشك في كونهم يحجبون عنه المعلومات، فقد كان يعذبهم أثناء ذلك، بل ويطعم كلابه منهم أحيانا. فشاعت أخبار وحشية الإسبان بين الهنود بسرعة، وأدركوا أن الطريقة الوحيدة التي تجنبهم سخط جونزالو هي تلفيق القصص عن إل دورادو وإرساله إلى أبعد ما يمكن من الأماكن. ولذا فمن حيث ظن جونزالو ورجاله أنهم يتابعون الأدلة الملفقة كانوا يستدرجون أقصى فأقصى إلى أعماق الغابات.
مع طول المسير بدأ العبيد في الهرب أو الموت، كما أن الجنود نفسهم بدأوا في التساقط، بعد أن قضوا في طعامهم على خنازيرهم وأتبعوها بحيوانات اللاما بل وكلاب الصيد أيضا، وصاروا يبحثون بعد ذلك عن كل ما يمكن أن يسدوا به جوعهم من الثمار وحتى جذور النباتات. مرت الحملة أثناء ذلك بظروف مناخية صعبة اضطرت جونزالو إلى البقاء حائرا على ضفة أحد الأنهار حيث كان يرسل الكشافة بين الوقت والآخر بحثا عن قرى للهنود يمكن أن يجد فيها الطعام لنفسه ولجنوده، ولكن الكشافة لا يعودون، إذ يكونون قد قرروا هجران الحملة في تلك الأثناء.
مع استمرار الصعوبات نسي رجاله كل شيء عن إل دورادو، وصار أقصى طموحهم أن يعودوا إلى الإكوادور. وبعد حوالي سنتين من انطلاق الحملة استطاع قرابة مئة رجل فقط العودة من أصل حملة كانت تعدّ بالألوف. وقد بدوا عند عودتهم وهم ملفوفون بالأسمال والجلود كأنهم قد خرجوا من جهنم نفسها، فقد غطت أجسادهم القروح، وبلغ بهم الهزال حدا جعل تذكر ملامحهم الأصلية مستحيلا.
العجيب هو أن الإسبان لم يتعلموا الكثير من كارثة جونزالو فاستمروا يشنون الحملات بحثا عن الذهب، وكانوا يعذبون الهنود في طريقهم ويحرقون القرى وينهبونها، كما كانوا يتحملون من المشاق ما يصعب تصوره، دون أن يقتربوا من الذهب. وحتى الذهب الحقيقي الذي كانوا يصلون إليه بالفعل كان يصرف بدوره على المزيد من تلك الحملات البائسة. ذلك لأن إغراء الخيال كان مهيمنا عليهم بقوة.
إن أسطورة إل دورادو التي تسببت في هلاك الكثيرين، ما زالت قائمة في أذهان الكثيرين أيضا، وما زال الناس يتورطون فيها دولا وأفرادا.
في نظري أن "إل دورادو" ليست نموذجا لوهم الثراء المادّي فحسب، بل لعلها تذكرنا أيضا بالكثير من الأوهام الأيديولوجية، التي تورط سالكي طريقها في الكثير من المزالق الأخلاقية ولا تزيدهم الإشارات إلى خيبة مسعاهم إلا حمقا وعنادا.
من المهم أن يتزود الإنسان بالحس الناقد الذي يساعده في الكشف عن حقيقة كل إل دورادو يعرضها عليه باعة الوهم، فيحمي نفسه من السقوط المادي والأخلاقي.
صحيح أن المصادفات قد تحدث، ولكن الانجراف بالكامل نحو ما يمتنع إقامة الدليل عليه يظل حمقا رغم ذلك، خصوصا إذا كان ذلك الانجراف يكلفنا دفع الثمن من إنسانيتنا قبل أي شيء آخر.
لعل هذه القصة وغيرها من قصص الحمق البشري كفيلة بأن تشير أيضا إلى أهمية اعتماد الإنسان على بوصلة الضمير ونداء الإنسانية في وجه كل "إل دورادو" تغويه أو تعرض له بزيها ليمسي من أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.