هذا القطار من القطارات المميزة حقا في غرب أوروبا، فهو من أسرعها وأنظفها وأنظمها وأكثرها متعة وراحة وقطعا للمسافات الطويلة لمن يسافر عليه بين المدن الرئيسية التي ينتظم سيره إليها.

سافرت بهذا القطار قبل أربع سنوات من العاصمة البلجيكية بروكسل إلى باريس فقطع المسافة البالغة 370 كيلو مترا بين المدينتين في ساعة وعشرين دقيقة بالتمام والكمال، وهي نفس المسافة تقريبا بين جدة والقنفذة، وأقل منها قليلا بين القنفذة ومكة المكرمة، فعجبت أشد العجب من هذه الوسيلة العجيبة، وتمنّيت وتمنّت عائلتي معي لو أن مثله في بلادي حتى يقرِّب ما بين مسافاتها الشاسعة، ومدنها المتباعدة، مما يعني أن المسافة بين الرياض وجدة -لو تحققت أمنيتي- ستكون في حدود أربع ساعات، وبين جدة وجازان في حدود ساعتين ونصف الساعة، وقيسوا بقية المسافات بين مدننا المتباعدة على هذا النحو، وإن شاء الله لن يمضي كبير وقت حتى تكون مملكتنا الحبيبة مغطاة بشبكة من القطارات السريعة، بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل حرص حكومتنا الرشيدة على الاستفادة من مختلف وسائل النقل الحديثة، خصوصا ونحن نلحظ أن بواكير التوسع في بناء السكك الحديدية قد بدأ، وأنه آت وسيأتي أكله في أنحاء عدة من المملكة.

هذا القطار تعرض في يوم الجمعة من الأسبوع قبل الفائت -وهو في طريقه بين أمستردام وباريس- لحادث إرهابي بغيض كان يمكن أن يحدث بسببه مجزرة وحشية على متن هذا القطار الذي يحمل أكثر من 300 شخص من المسافرين العزّل، لولا أن تداركه لطف الله سبحانه وتعالى بفضل تدخل أربعة من ركابه: ثلاثة من الأميركيين والرابع إنجليزي، إضافة إلى شخص خامس فرنسي، حيث استطاعوا التغلب على الإرهابي بانتزاع سلاحه وتكتيفه. وقد تابعنا جميعا ذلك الاحتفاء التكريمي الذي أقامه الرئيس الفرنسي أولاند في قصر الإليزيه، بحضور رئيس وزراء بلجيكا ورئيس وزراء فرنسا والسفير الأميركي وسواهم، وفيه جرى تكريم هؤلاء الأبطال بمنحهم وسام جوقة الشرف، وهو وسام من الدرجة الأولى أسسه نابليون بونابرت، ولا يمنح إلا للأبطال الذين يقدمون خدمات جُلى لفرنسا.

أما الإرهابي فهو شاب مغربي متأسلم يدعى أيوب الخزاني، كان مدججا بالسلاح والذخيرة، ولعله من شباب الصحوة المغرر بهم، قيل إنه يسكن في إسبانيا، ويتنقل بين دول أوروبا الأخرى بفضل وثيقته الإسبانية، وقيل إنه سافر إلى سورية وعاد منها لتوّه عن طريق ألمانيا. وعلى الرغم من نفيه تهمة الإرهاب عن نفسه، وادعائه بأنه لص كان ينوي السطو على من في القطار، واستلاب ما يستطيع استلابه منهم من الأموال ثم يهرب، وأنه عثر على السلاح في حديقة في بلجيكا قبل صعوده إلى القطار، على الرغم من كل ذلك فإن جميع الدلائل تشير إلى أنه إرهابي، على شاكلة كثير من أضرابه المنتسبين إلى الإسلام السياسي مع الأسف.

وما من شك أن الإرهاب بجميع أشكاله مرفوض، وهو جريمة نكراء بحق الإنسانية جميعا؛ لأنه حينما يضرب لا تستثني ضحاياه أحدا من الناس بمن في ذلك الشيوخ والنساء والأطفال، ويكون أشد جرما حينما يستهدف المرافق العامة المكتظة بالناس وعلى رأسها وسائل النقل العام، ومنها الطائرات والقطارات، وكلنا نلحظ التعقيدات الأمنية والتفتيش الدقيق المصاحب للرحلات الجوية مما أضر بالناس، وكلف الجهات الأمنية في المطارات الشيء الكثير من المال والجهد، ووسائل الكشف التقني، حتى إن المسافر جوا في أميركا يدخل في غرفة زجاجية قبل صعوده إلى الطائرة فتكشف كل شيء فيه. فهل ينتظر الانتقال بالقطارات تدقيقا أمنيا كذلك المطبق على الطائرات، وهل الأصوات المنادية والمنتقدة لقلة الاحتياطات الأمنية في القطارات يمكن أن تفضي إلى تعقيدات أمنية؟ وهذا ما أراه في غاية الصعوبة؛ لأن القطار وسيلة نقل شعبية في أوروبا خاصة -في حدود ما رأيت وما سمعت- ويستخدمه الملايين من الناس كل يوم، ومن طبيعته السرعة في الصعود إليه والنزول منه في كل محطة يتوقف فيها، وبعض المسافرين ينتقلون من قطار إلى آخر دون دخول المحطة، وهو مكون من عدد من العربات المقطور بعضها إلى بعض في صف قد يزيد على مئتي متر طولا، ولكل عربة بابان يلج إليهما المسافرون بسرعة عجيبة، ومن الصعوبة بمكان وضع تحريات أمنية على كل باب من أبواب العربات؛ لأن من طبيعة السفر بالقطارات سرعة حركة المسافرين بـ"عفشهم" كثر أو قلّ، وأي غفلة أو تأخر في صعود القطار، أو خطأ في معرفة الدَّكَّة التي يقف عليها، كفيلة بانطلاقه قبل أن يصل إليه المسافر، فيفوته القطار، وعليه انتظار قطار آخر.

ولعله من الصعوبة بمكان أن تؤدي مثل هذه الأحداث في القطارات إلى إجراءات أمنية شبيهة بتلك التي تجري مع المسافرين جوا وإلا ستنخفض حركة القطارات بنسبة كبيرة، ويتعطل المسافرون، وتتلاشى المتعة التي يستشعرها محبو السفر بالقطارات في أي مكان بالعالم.