لا يمكن لأبها أن تمرر الرحيل القاسي لأحد أعيانها ورموزها الكبار دون رسالة وداع. لا يمكن لهذه المدينة ألا تكون وفية في تأبين مواطن بذل وجهه وماله من أجل القصص الصغيرة الشاردة في حياة الآلاف الذين لم يتركوا لذلك العملاق أن يعيش حياته لنفسه ولأسرته. وبالنسبة لي فقد أغلق هذا المرض الخبيث أمامي باباً واسعاً مفتوحاً، وبلا مصراعين، لبعض قصص "الشفعة" التي كنت أرميها على أكتاف "أبومحمد" كلما ضاقت بسيطة هذه الأرض في وجه عائلة من هذه المدينة. وفي تأبين الوالد الغالي، اللواء سعيد بن محمد أبوملحة، أقف أمام مفترقين: هل أكتب عن هيبة "اللواء" التي طغت وكبرت شخصه فوق ألقاب الفريق والمشير والعماد حتى صار أشهر "لواء" في تاريخ هذه المدينة؟ هل أكتب عن "كاريزما" الأسرة النبيلة التي وقفت ذات صفحة من التاريخ موقفا وطنياً عاقلاً شجاعاً في سفر التكوين لهذه الدولة المباركة؟

وقفت أمام المفترق الثاني وهذا ما سأكتبه: روح الإنسان وعيون البكاء القريبة من الدموع التي تنسى تماماً كل النجوم والتيجان والنياشين أمام القصص الإنسانية، سأذكر القصة التالية ويؤسفني جدا أنني أنشرها للملأ بعد الرحيل: ذات ليلة أبهاوية باردة، وفي منتصف المساء الطويل، طرقت باب منزلي أرملة عجوز ومن ورائها بناتها الثلاث من أجل شفعة لابنهم المراهق لإخراجه من براثن خطيئة. كان مشهدهن أمام باب منزلي قاتلاً حزيناً لا يحتمل العذر. فتشت في قوائم معارفي ودوائر نفوذي بهذه المدينة فلم أجد سوى الإنسان الوالد، سعيد أبوملحة، لأنني أعرف أنه البيت الوحيد في كل هذه المدينة الذي لا يعترف حتى في الهزيع الأخير من الليل بالمصاريع والمفتاح والضبة. هاتفته مراراً لكنه لم يرد رغم أنني أعرف أنه صديق نوم مبكر. وتحت الضغط لمرارة قصة هذه العائلة، أخذتها إلى منزله، رحمه الله، بشارع الطبجية الأبهاوي. وصلنا.. بوابة قصره رحمه الله، في الأصل بلا أبواب. دلفنا إلى باب منزله وفي الأصل هي لا تعرف عناق "الدرفتين". أكثر من هذا... دلفنا.. إلى غرفة نوم هذا الإنسان وكانت علاقتي به تسمح بالرخصة للابن أن يكسر خلوة والده. هو من علمني أن الحياة بلا أبواب. وعلى أطراف سريره رحمه الله كانت ثمان عيون لأربع نساء تشحذ من نفوذه إخراج مراهقهن من براثن خطيئة فلم يؤذن لصلاة الفجر إلا وقد كان هذا "الابن" حرا طليقاً مع أمه وأخواته الثلاث في الفناء المفتوح، وفي نوبة بكاء، في فناء منزل الإنسان الوالد، سعيد أبوملحة، هنا ذروة النهاية: نفس صبي براثن الخطيئة، هو من شفع له "أبومحمد" وبالمشعاب لدخول كلية العلوم الطبية لتغيير مجرى حياته. هو ذاته "فني التمريض" الناجح الذي هاتفني عصر ما قبل الأمس لينقل لي بحشرجة الدموع خبر رحيل الوالد الإنسان، لواء الحب والخير والعطف، سعيد بن محمد أبوملحة.