صنعت القاعدة أحلاما وردية عظيمة وسوَّقَت معها أحقادا كبرى على العالم بأسره، وليس على الحكومات الإسلامية ومن يتبعها ويدافع عنها من الشعوب والعساكر والقياديين وحسب.
حقا، هناك فرق كبير جدا بين الحلم القَاعِدي وبين الحُلُم الماركسي من جهة، كون الثاني محض خيال لم يتحقق في يوم من التاريخ طيلة حياة الإنسان في هذه الأرض، وإن كان ماركس قد زعم وجود عصر سماه العصر المَشاعي الذي كان بزعمه قبل وجود الأديان والطبقات على هذه الأرض، وهذا محض خرافة ولا يمكن إثباته عبر التاريخ المكتوب أو حتى عبر علم الأحافير، لكن قد وُجِدت في التاريخ اليهودي طائفة كانت تعيش في جنوب فلسطين، ذكر المؤرخون التوراتيون أنهم كانوا يعيشون حياة تعاونية تشاركية، لكنها لا تصل أبدا إلى ما كان ماركس يصوغه من أحلام، كما أنها كانت عبارة عن مجموعة من البشر صغيرة الحجم ولم تكن شعبا، وأيضا انتهت تجربتها نهاية مأساوية لا تُشجِع أحدا على تكرارها. لكن العيش في داخل الحلم كان إحدى الحوائل دون التفكير فيه بعلم وعقل.
أما الحُلُم القاعدي فله سند شرعي حاضر في ذهن كل مسلم، كما أنه يُبَرْهَنُ بتجربة تاريخية عزيزة وغالية على كل مسلم، وهذا السند الشرعي وذلك الوجود التاريخي هما العاملان الأساسان في سهوله تسويق ذلك الحلم.
فالخلافة الإسلامية والدولة الواحدة التي تجمع شعوب المسلمين من الصين وحتى جنوب غرب أوروبا، والتي يسترضيها ملوك العالم أجمع ويتنقل المسلمون في جميع أجزائها بكل حرية وانسياب، تُقَدَّمُ للشاب على أنها مطلب سهل ووشيك الحدوث لم يَعُد يحول بين العالَم، وبين تحققه سوى حفنة من الطواغيت المتسلطين على بلاد المسلمين، والذين يُمْكِن وبِكُل يُسر اقتلاعهم بشيء من أشلاء الشباب ودمائهم وتضحياتهم، وما إن يَتِمَّ اقتلاع هؤلاء الطواغيت حتى يُتِمَّ الله نصره وينجز وعده ويتوحد المسلمون في دولتهم العالمية!
هكذا كانت القاعدة تصوغ حلمها متجاوزة كل التحديات العالمية والإقليمية مُتَغَلِّبَة على كل عوامل الضعف التي يُعَاني منها المسلمون، سواء أكان ذلك في مجال السياسة أم العلوم والتصنيع أم في الدين والأخلاق والاجتماع والاقتصاد.
بل إنها تصنع من عوامل الضعف تلك مادة أولية مهمة في تمهيد أرضية صُلْبة من الحِقْد على الواقع في قلوب الأتباع، فالحقد على الواقع هو الآفة النفسية والعاهة القلبية التي تُمَكِّن آلة التجنيد القاعدي من إقناع تلك العقول بضرورة تحطيم هذا الواقع، وتحول بينها وبين النظر إلى أي مظهر جميل فيه، وتجعلها تتجاوز وبسهولة كل ما ينتج عن إتلاف هذا الواقع من أخطار وآفات ومصائب.
إن إشعال نار الحقد المستعرة على الواقع والضيق الشديد به، ثُمَّ وبشكل مباشر فرش بساط الأحلام يجعل عقول الأتباع تنبطح فورا على هذا البساط، ولا تلقي بالا أبدا لكل التناقضات والصعوبات والخرافات التي تنتظمها هذا الأحلام.
عُد إلى تاريخ القاعدة لتجد أنها منذ ستة وعشرين عاما، وهي تُغْرِقُ أتباعها المُعَبَئين بالحقد الطاغي بالأحلام لدرجة جعلتهم ينسون الزمن الذي يتقدم بهم كل يوم دون أن يتقدموا شبرا واحدا في طريق مشروعهم، وينسون المنطق حتى سقوط برجين، سيسقط أميركا والحضارة الغربية بأسرها، وأن غزو أميركا لأفغانستان سيجعل تلك البلاد الجبلية مقبرة له، وأن تجمع بضع مئات منهم في جنوب اليمن سيكفل لهم إسقاط السعودية ودوّل الخليج جميعا، وأن تجمّع عشرات في نهر البارد كفيل بإسقاط الدولة اللبنانية، وما يسمى بحزب الله ثم من بعده الكيان الصهيوني.
كل مشاريعهم واستراتيجياتهم وتكتيكاتهم ليس فيها القدر القليل من الحكمة والمنطق وحساب العواقب، ومع ذلك تتقبلها عقول الأتباع بشكل يسير جدا؛ لأن تلك العقول -كما ذكرتُ لك سابقا- تقف على صدور يملؤها الحقد والضيق، والقلوب الحاقدة تُحرك عقولها بعيدا عن المنطق الطبيعي الفطري المركوز في النفوس.
ويمكنك التوثق من ذلك بالنظر إلى دستورهم أو مدونة فكرهم الاستراتيجي، وهو كتاب إدارة التوحش لخليل الحكايمة، فالكتاب مكون من 13 فصلا خلاصتها: أن استراتيجيتهم تقوم على السعي لإعادة الناس إلى عصر التوحش حيث الفوضى الكاملة، ومن هناك سينطلقون هم لإعادة الناس إلى الاستقرار، وتجد أن غالب المنضوين من الشباب تحت لواء القاعدة مقتنعون بهذه الفكرة، رغم أنها لا يمكن أن تصمد أمام أي نقاش منطقي، بل لا تستطيع الصمود أمام أي نقاش واقعي، ففي الواقع استطاعت القاعدة فعلا النجاح في إيصال الصومال إلى عصر التوحش، ومع ذلك لم تنجح في إدارة هذا التوحش والبناء من خلاله كما هو مشروع خليل الحكايمة، وكذلك الأمر في أفغانستان والعراق وسورية واليمن.
وقد تسألني عن داعش وجاذبيتها وكيف تفوقت على القاعدة في الجذب والتجنيد؟
فأقول: إن داعش قَدَّمَت للمتلقي والمتعاطف حقدا مضاعفا على الواقع، ووجدت مادة تناسب هذا الحقد من مزيد الابتلاء الواقع بالمسلمين، فاستطاعت تضخيم الحقد في قلوب الأتباع، ثم تكثيف مادة الأحلام التي تنبطح عليها عقولهم، فبينما كانت القاعدة تَعِدُ أتباعها بالخلافة زعمت داعش أنها تُحَقِّقُ لهم هذا الوعد، وسمَّت تنظيمها دولة، وقائدها خليفة، ووضعت العالم بأسره على خارطتها.
لهذا فداعش مثل أمها القاعدة، ومثل السحرة والمشعوذين الذين تحدثنا عنهم - في المقال السابق -، يستخدمون ذوي العاهات النفسية، بل يصنعون العاهات النفسية وأعظمها الحقد والكراهية والضيق بالواقع واليأس من الحل، ثم يضخمون الأوهام ويقربون الأماني ويعبثون بالتناقضات.