إن استذكار حجم الإغناء الأدبي والإبداعي الذي أضفته فريضة الحج على الثقافتين العربية والإسلامية ناهيك عن جانبها الروحي وشرعيتها الدينية، يكشف إلى أي مدى كانت هذه الفريضة حاضرة ومؤثرة في كل الأزمنة والعصور. أستطيع القول وبحماس إن جزءا كبيرا وهائلا من إبداعات العرب قبل الإسلام، جاء الحج بصيغته الأولية قبل بعثة الهدى المحمدية عاملا مهما في بلورتها وإثرائها وتقييمها، خصوصا في المسألة الشعرية إن نقدا أو بحثا عن إشادة، بعد انبثاق فجر الإسلام. أمر آخر فقد شمل التأثير والتغيير جميع الفنون، إذ لا تزال الخطابة العربية تحتفظ بخطبة حجة الوداع كنموذج خالد على فن الخطابة وعمق تأثيره وارتداده عبر الزمن، وفي أدب الرحلات العربي الإسلامي كان الحج هو الدافع الأول إلى التأليف والمحفز الكبير للمؤلفين الحجاج، فن الجغرافيا، وعلوم البلدانيين الذين عبروا الصحارى والبحار، وسجلوا بدقة كل ما مروا به بهدف الوصول إلى مكة قلب العالم، ومركز الكون. من مكة وإليها ينتهي كل شيء، لو أخذنا الاستشراق مثلا، كان في شكله الأول المتقدم الثقافي قبل أن يتحول إلى التوظيف الاستعماري، كان يحار في مكنون الحج الروحي، ويقتفي آثار القوافل والرحلات الذاهبة إلى هناك؛ أملا أن يقترب مجرد اقتراب من هذه الرحلة الإيمانية العميقة، وينقلها بدقة وتحديد إلى أوروبا. رفد الحج الثقافة والإبداع بالكثير، وظل على الدوام حالة إثرائية خصوصا في ارتباطه الكبير بالتوبة والتطهر والعفو، إذ إن هذه الحالة التجردية الزاهدة في الدنيا والراغبة فيما عند الله تجعل الإنسان أكثر شفافية وبساطة، فينقل هذه التجربة الروحانية المؤثرة والعميقة.
فكيف يكون الأمر متى ما كان الإنسان مبدعا وحساسا وفنانا شفيفا؟ من عمق الزمان تمضي هذه الرحلة الإيمانية العظيمة، وتعيد تشكيلنا عاما بعد آخر، ورحلة إثر أخرى في ريشة فنان أو شطر شاعر أو جملة مفكر أو وصف جغرافي من شعوب الله التي تترامى في أرضه الواسعة، مؤملة النفس باللحاق بركب الفائزين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.