ابتداء لا بد أن أوضح أن الموضوع المطروح اليوم في غاية الحساسية فهو لا يتعلق بعدو افتراضي أو مجازي، بل بعدو مخضرم اقتحم أرضنا واحتلها واعتاد دراسة خطواته بدقة، وعمد إلى تسويرها بأسورة إسمنتية وأيدلوجية ليضمن نجاحها وبقائها.

سأتحدث اليوم عن حراك قديم جديد للكيان الصهيوني الذي عاش السنوات الأخيرة مستمتعا في أدائه دور المتفرج لمسلسل إرهابي طال معظم بلادنا، فقد كان لبعض أبنائنا -مع الأسف- الدور الفاعل في نجاح خططه دون أي خسارة من أي نوع، إذ عمت بيننا الفوضى هنا وهناك وتحول أبناؤنا إلى عملاء ذاتيين لهذا العدو، ولغيره ممن يتمنى أن يرانا في مقتل، وأقصد بالعملاء الذاتيين أي بتوجيه ذاتي داخلي، أو بتخطيط ممن يفترض أنه يدين بديننا، ولكم أن تخمنوا من أقصد هنا!

وفي خضم انشغالنا في درء الفتن التي عمت أرجاء شاسعة من عالمنا العربي استبق هذا الكيان الطفيلي الزمن بتحركات استباقية؛ لتحقيق حلمه الأسمى وهو بتر أقدام المسلمين قبل الوصول إلى الأقصى الشريف.

فمنذ أيام معدودة وبالتحديد منذ أواخر أغسطس الماضي عمد الاحتلال الصهيوني إلى التقسيم الزماني للمسجد الأقصى، إذ منعت شرطة الاحتلال المصلين المسلمين من دخول المسجد الأقصى بشكل يومي ما بين الساعة السابعة والنصف صباحا وحتى الساعة الحادية عشرة صباحا، وما بين الواحدة والنصف والثانية والنصف ظهرا، بمن فيهم المرابطات من نساء فلسطين وليفسح المجال لاقتحام المستوطنين الصهاينة ساحات المسجد الأقصى بحماية مشددة، وهذا بلا شك يعد تمهيدا لتنفيذ التقسيم المكاني، إذ سيتحقق ابتداء تقسيم ساعات اليوم ليكون جزء منه مخصصا للمسلمين والجزء الآخر لليهود، على أن ينتهي بهم الطريق لهدم أولى القبلتين، سبيلهم لبناء الهيكل المزعوم على أرضه الطاهرة.

فخلال الأيام الماضية وقع وزير جيش الاحتلال الصهيوني "موشيه يعلون" أمرا يقضي باعتبار "المرابطات" في المسجد الأقصى جماعات غير مشروعة ومحظورة تستوجب الاعتقال. هذا ما نشره "المركز الفلسطيني للإعلام" نقلا عن الموقع الصهيوني 0404 الذي تحدث عن هذا القانون وعلق عليه بقوله: "صوت التكبير ومضايقة المستوطنين المقتحمين للأقصى سينتهيان، وذلك لأن أي مرابطة تقوم بذلك سيتم اعتقالها"، معتبرا "المرابطات" "ومصاطب العلم"- منظمات غير قانونية.."، كما أضاف: أن وزير الحرب وقع على هذه التعديلات في القانون بعد مشاورات مع الشرطة، وجهاز الأمن العام الإسرائيلي الذين قالوا إن فعل المرابطات يضر بأمن دولة إسرائيل، وأنهن يسببن أضرارا للسياحة.

وجدير بالملاحظة هنا أن معظم المرابطين لحماية المسجد الأقصى قبل صدور هذا القانون من النساء الفلسطينيات، إذ إن سلطة الكيان الصهيوني كانت تمنع الرجال من ذلك، وهكذا أصبحت المرأة الفلسطينية الخط الأول للدفاع عن الأقصى في ظل الاختفاء الإجباري لدور الرجال، ومع ما تلاقيه من تعنت على يد جنود الاحتلال.. ضرب فإقصاء فاعتقال.

ولأن دورها البطولي استمر لسنوات وكان يعتقد أنه سيكون مؤقتا، إذ ظن البعض أنها سرعان ما ستنشغل بمهام أسرتها ورعاية أطفالها من ثم تتخلى عن رباطها وحمايتها للأقصى، خاصة مع وجود تجاوزات يومية مستهدفة من مستوطنين اعتمدوا سياسة الترويع والاعتداءات اللفظية والجسدية وبشكل متواصل وبدعم أمني.

وأتساءل هل كان بالإمكان لهذا الكيان القيام بما قام به لو كنا كمسلمين وعرب على قلب رجل واحد، هل كان سيتجرأ على معارضة ومضايقة أكثر من مليار مسلم، وشعوب عربية تحيط به كالسوار الخانق؟ أم أنه مدرك أننا في شغل شاغل أمام شباب فاقد الأهلية حول حياتنا لجحيم، وأننا نحاول تنظيف الظاهر والباطن في عملية جراحية معقدة تتطلع لتطهير جسدنا بالكامل؟

المؤلم أنه في خضم ما تعانيه مدينة القدس والمسجد الأقصى من عملية ممنهجة لتهويدهما، تكتفي جامعة الدول العربية بإدانة هذا القانون الصهيوني الذي أدرج المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى كتنظيمين غير شرعيين واعتبارهم خارجين عن القانون، وهذه الإدانة طالت أو قصرت لم تكلف الجامعة إلا الحبر الذي كتبت به؛ فهي لم تقف موقفا حازما من هذا القرار التعسفي، ومما يمارسه هذا الكيان من هدم للبيوت وتهجير للفلسطينيين والاستيلاء على المقدسات الإسلامية على اختلافها، وانتهاء بمحاولتها الحالية تحجيم الوجود الإسلامي على أرض الأقصى، فهي وكما أعلم لم ترفع أمرها للأمم المتحدة ولم ترسل مندوبيها إلى دول العالم توضح من خلالهم أهمية الأقصى أولى القبلتين للمسلمين عامة.. ثم أين دور منظمة المؤتمر الإسلامي مما يحدث للأقصى؟!

أتمنى عليها أن ترفع صوتها ليسمعه القاصي والداني، فالأقصى يئن يا عباد الله، ومن جانب آخر أعتب على إعلامنا العربي الذي لم يول هذه القضية أهميتها، وانشغل بهمومنا وتغاضى باختياره أو دون إرادة منه عن ألم وجرح وأنين الأقصى الشريف.

والمملكة العربية السعودية هي المؤهلة الوحيدة هذه الأيام -بإذن الله- لتحريك قضية أراد لها البعض أن تبقى طي الكتمان، فما يحدث للأقصى اليوم لا يقل خطورة عن محاولة حرقه عام 1969.