عقب الحربين العالميتين خرج عدد من المفكرين لينتقدوا الواقع الذي أفضى إلى هاتين الحربين من خلال نقد العقل الأداتي والحداثة، ولتظهر علينا فلسفات جديدة كالوجودية وما بعد الحداثة وغيرها، ولتضع الإنسان في غاية اهتماماتها، وتنقد السياسات الحاكمة لبلادها حتى إن بعضهم، كسارتر مثلا، وقف ضد بلاده فرنسا في حربها على الجزائر، ومع ذلك لم يطلق عليه أحد صفة الخيانة الوطنية. كما أن الأفكار الاشتراكية عادت وتحولت إلى فلسفات نقدية متجاوزة للأفكار الماركسية في فلسفة التاريخ، بمعنى أن مراجعات عديدة حصلت عقب اصطدام تلك الأفكار مع الواقع، والتي كان الإنسان مسحوقا بسببها.
في العالم العربي حصل منذ سنوات طويلة كثير من الأحداث التي حولته إلى مزيد من القمع والدماء والصراعات السياسية والدينية والعسكرية، كما اندلعت الثورات العربية قبل حوالي أربع سنوات لتزيد الأوضاع مأساوية، وتضع الواقع العربي في دوامة أكبر من الدوامات السابقة، فلم تنجح تلك الثورات إلا في استبدال أسماء الكراسي، وباستثناء تونس فقد تحولت دول الثورات إلى حمامات دم، فلم تفلح في تجاوز الثورات إلى بناء دولة مستقرة، كما عادت الخطابات الدينية المتطرفة إلى الظهور بوجه أكثر بشاعة ودموية؛ تمثلت في السلفيات الجهادية كالنصرة وداعش وغيرهما، وعادت الطائفية مع الأحزاب السنية والشيعية المتقاتلة، فظهر من الجانب الشيعي فصائل حزبية شيعية ورايات الحسين، بحيث صارت لا تبتعد عن المفاهيم الجهادية الدموية.
كما أن هذه التحولات العميقة على مستوى الدول، وامتدادات الرؤى المختلفة في الشرق الأوسط، بدأت تتكشف عن إشكالات عديدة ليس أقلها قصورا في الرؤى التي من شأنها بناء الدولة فقط، وإنما أيضا الوعي بالعمل الديموقراطي بوصفه عملا يضمن مساواة الجميع تحت قانون توافقي، وليس قانونا حزبيا تتفرد به بعض الأحزاب دون غيرها، فبناء الدولة أهم بكثير من قيام الثورات، خاصة أن جميع هذه الثورات كانت تطمح إلى مزيد من العدالة الاجتماعية والحرية والاستقرار، فكان على الثورات -بوصفها خطابا تغييريا- أن تفرز عددا من المفاهيم الجديدة، حتى ولو كانت على المنظور الفكري البسيط لرجل الشارع، على اعتبار أنه الفاعل البشري والمنفعل مع كل تلك التحولات؛ بل هو المعني من كل ذلك في خطابات السياسيين سواء، لكن الإشكالية التي ظهرت أن الأسئلة الجذرية: (السياسية والثقافية) لم تطرح بذلك العمق الذي يمكن له أن يؤسس إلى خطاب جديد يمكن أن نسميه خطاب "ما بعد الثورة" على غرار "الما بعديات" الحداثية في الفلسفات الغربية الحديثة.
الأسئلة السياسية التي كان يجب أن تفرزها هي حول مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم الثورة ومفهوم الديموقراطية وحدود المواطنة الاجتماعية والسياسية على مختلف الطوائف والأديان التي تنتشر في العالم العربي. أما على مستوى الأسئلة الثقافية فهي أسئلة أكثر عمقا تمس علاقة المجتمع بأفكارهم وثقافتهم ومدى التصورات عن الآخر المختلفة فكريا ودينيا، وحدود مفهوم الحرية الفكرية والدينية والتعبيرية والفردانية والتعددية المذهبية والفكرية وغيرها.
تلك الأسئلة لا نجد لها تحريرا فكريا، وكل ما نجده هو في نوع من الثورة المتواصلة دون طرح أسئلة الذات العميقة على ذلك الحراك، فضلا عن النقد الذي يمكن أن يُوجّه إلى التيارات كافة، ومدى تصورها للعمل السياسي والديموقراطي؛ بل ومآلات الثورات نفسها.
صحيح أنه ليس من السهولة أن تتغير البنى الثقافية بين يوم وليلة؛ بل إنها تحتاج إلى كثير من العمل والوقت لكي (يمكن) أن تثمر وتخرج بشكل أكثر نضجا؛ هذا إذا لم تنحرف مسارات الثورة أو الديموقراطية عن الخط الذي كان يجب عليها أن تسير عليه في تحقيق كرامة الإنسان العربي وحريته (كما هو الواقع الحالي)، لذلك كنت أشدد على قضية المآلات في أكثر من مقال منذ اندلاع الثورات العربية، حيث هي -في رأيي- الحكم الأخير في طرح المسائل كافة.
مع كل هذا الواقع العربي المؤلم، فإن أمام مفكري السياسات العربية والمفكرين الدينين، فضلا عن المثقفين، فرصة كبيرة لمراجعة كثير من المسارات الفكرية والسياسية التي آلت إليها الثورات العربية، بحيث يمكن ضمان عدم عودة الأخطاء السياسية مرة أخرى، بل والبحث في أساس المشكلات الفكرية الذي قاد إلى كل ما قاد إليه من قبل ومراجعته مراجعة جذرية، تشمل كافة الخطابات المعرفية وليس فقط نقد الإسلاموية؛ بل تذهب أيضا في مراجعة أو نقد الرؤى العروبية والرؤى الليبرالية وغيرهما، كما تشمل نقد الخطاب السياسي الرسمي للدول، ونقد خطاب المعارضة بوصفهم أحد أطياف العمل السياسي الذي يحتاج إلى مراجعة لاعتماده على آليات معرفية بعضها لا علاقة لها ببناء دولة حديثة.
الشارع العربي يحتاج إلى أن يعيد حساباته في أحزابه الدينية والسياسية والرؤى الفكرية كالعروبية والقومية والليبرالية والعلمانية، والتحول لرؤية جديدة تسائل أساسات الخلل السياسي الذي حصل، وإلى تعميق مبدأ الاستقرار السياسي، فالاستقرار مهم لمراجعة الذات وأخطائها التي تأصلت لناتج عملي بحكم وجود إشكالات فكرية أكثر عمقا، فالمعطيات الفكرية مهمة في تكوين الرؤى الجديدة؛ لذلك لست ممن يرى خفوت دور المثقف في هذه التغيرات الجديدة الطارئة على العالم العربي، إنما أرى أن مهمته تغيرت من الفعل الأيديولوجي والنضالي إلى الفعل النقدي، فهل كانت الثورات سؤالا فكريا أو فلسفيا أو حتى أدبيا لدى المثقفين العرب؟ حتى الآن لم نجد ما يمكن أن يعول عليه، لكن هذا ربما راجع إلى "طزاجة" الحدث الثوري الذي يحتاج إلى سنوات من الاستقرار لوعي ما كان برؤية نقدية فاحصة لا تخشى من الهجوم أو التخوين الفكري والسياسي لمجرد المراجعة النقدية للثورة ومآلاتها، على اعتبار أن النقد من أهم أدوات المثقف، أو حتى رجل الشارع العادي الذي كان خطاب رجال الثورات يسير في اتجاهها أو أنه يرفعها شعارا ثوريا لتحقيق التغيير السياسي.