عدت بذاكرتي أستجمع وأستحضر صور الحب التي سمعت عنها أو رأيتها في حياتي، كم سمعت ورأيت من قصص حب وغرام وهيام انقلبت بعد فترة من الزمان إلى صراع ونزاع وكره وبغض، فهجر وانفصال، وكأن لم يكن هناك من حب ولا مودة في يوم من الأيام، وكم سمعت ورأيت أشخاصا لا يحبون الناس ولا يحبهم الناس يمقتون كل من حولهم، ثم تسمع أن الواحد منهم أخيرا قد وقع في الحب، ولكن لا تلبث بعد فترة أن تسمع أنه فشل في حبه فانفصل وعاد إلى ما كان عليه.
وبين الحين والآخر أسمع وأرى أشخاصا محبوبين من كل من حولهم لا تجد من يكرههم أو يحمل لهم في القلب شيئا غير الحب، وأسأل نفسي: ما سر هذا الحب؟
نظرت حولي فرأيت التناقض العجيب بين كثرة ما يسوق لنا عن الحب في صور استهلاكية على القنوات التليفزيونية والشاشات السينمائية والمجلات والروايات وقصص الحب الغرامية، وبين الممارسات الفعلية للحب الصادق الحقيقي بين أفراد المجتمعات الإنسانية.
بل قد لا يوجد نشاط يمارسه الإنسان يبدأ بآمال عظيمة وينتهي بالفشل بشكل منتظم مثل الحب، ومع ذلك لا يحظى بالدراسة المتعمقة لفهم أسباب هذا الفشل المتكرر لظاهرة الحب في الإنسان.
قررت أن أتعمق في دراسة ظاهرة الحب، فبحثت وتقصيت حتى شاء الله بفضله أن يقع بين يدي كتاب فن الحب (The Art of Loving) للمحلل النفسي الشهير والعبقري الفليسوف إيريك فروم (Erich S. Fromm) والذي كتبه عام 1959 وبقي إلى يومنا هذا أحد المراجع الرئيسية لفهم قضية الحب، فوجدته أفضل ما كتب عن الحب بطريقة علمية متعمقة.
اكتشفت أن أول مفهوم خاطئ عن الحب هو الاعتقاد بأن الحب متعلق بالشخص الذي نحب، حيث يظن معظم الناس أن الحب سهل، ولكن الصعوبة تكمن في أن يجد الإنسان منا الشخص الصحيح الذي يبادله الحب، وهذا مفهوم خاطئ، فالحب ليس متعلقا بظهور الشخص المناسب أو الظروف المناسبة وإنما هو إرادة وملكة وقدرة.
يقولون وقع في الحب.. وقع؟! وهل الحب حفرة أو مصيدة أو فخ ليقع فيه الإنسان؟ يقولون غرق في الحب.. غرق؟ وهل في الغرق إلا الموت ونهاية الحياة؟! وكأننا نعترف بأنها كذلك على مستوى اللاوعي لإطلاقنا هذه المسميات عليها.
تيقنت أن الحب الذي يصفه الكثير من الناس بجملة "الوقوع في الحب" ليس حباً حقيقياً، الحب الحقيقي لا يقع فيه الإنسان كما يزعمون، بل يقف عنده وبه وفيه، فالإنسان إما أن يكون من هؤلاء الذين يقفون عند الحب ويعيشون بالحب وفي الحب، لأنهم دائماً في حالة حب أو لا يكونون.. الحب هو نمط حياة.. هو طريقة حياة.
إن الفهم الخاطئ لماهية الحب هو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الطلاق حول العالم بنسب ليست لها سابقة في تاريخ الإنسانية، فالوقوع في الحب ما هو إلا استدراج الغريزة الجنسية في الإنسان لضمان استمرار النسل ونمو وتكاثر الجنس البشري، فالدراسات الحديثة تؤكد أن المراحل الثلاث لظاهرة الوقوع في الحب من الاجتذاب والاستهواء، للتلهف والرغبة والشهوة، للتعلق والارتباط تحفزها زيادة إفراز هرمونات كالإستروجين والتيستاستيرون والأدرينالين والدوبامين ثم السيراتونين والأوكسيتوسين، وبعد فترة من الزمن ليست طويلة تنخفض إفرازات هذه الهرمونات وتخفت العلاقات الحميمة، وكما ظنا أنهما وقعا في الحب فإنهما سيقعان خارج الحب؛ لأنهما في الحقيقة لم يعرفا الحب الحقيقي ولم يمارساه.
كثير من الأنشطة التي يقوم بها الإنسان يكون لها دوافع على مستوى الوعي أو اللاوعي، فالإنسان الطموح الذي يعمل ويثابر ويكد، ويكون لديه الدافع لجمع المال والشهرة، تصبح هذه الدوافع هي التي تقوده، فهو مساق للعمل بتلك الدوافع وليس هو القائد المتحكم والسيد لها، وبذلك يصبح نشاطه سلبيا وإن كان منتجا على مستوى المادة، ذلك لأنه لم يصبح سيدا لعمله، بل أصبح خادما لدوافعه، أما الحب الحقيقي فهو نشاط إيجابي بالإرادة الواعية وليس شعورا عابرا بدوافع فسيولوجية هرمونية أو دوافع تحت سيطرة (الأنا) التي فينا. الحب نشاط إيجابي لا يملكه إلا حرٌ سيدٌ على شعوره وإرادته.
الحب عطاء.. نعم الحب هو العطاء لا الأخذ، بل الحب الحقيقي هو العطاء دون انتظار الأخذ. العطاء الذي أصبح يفهم في عالمنا المادي أنه التخلي عن شيء أو التضحية بشيء، إنها عقلية المقايضة في سوق تحكمه قيم الرأسمالية، فالعطاء بدون أخذ يعد خداعا وظلما في أعينهم، ولكن العطاء عند الشخص الحر المتحرر من دوافع (الأنا) التي فيه هو أعمق صور التعبير عن القوة والثروة الداخلية والقدرة على إدخال الفرح والسعادة والبهجة والسرور على الآخرين، لينعكس كل ذلك على المعطي مشاعر فيّاضة وإحياء لروحه، فالعطاء يغني الغني، والغني ليس من يملك الكثير ولكنه الذي يعطي الكثير.
أما الذي يعجز عن العطاء خوفا على ما يملك، فهو فقير بغض النظر عما يملك وإن كان كثيرا، فهو لا يملك ما بيده وإنما هو مملوك له. وأعظم أنواع العطاء أن يعطي الإنسان من أغلى ما يملك، أن يعطي من نفسه، من فرحه، من شغفه، من علمه ووقته، أن يعطي من ذلك الشيء الحي الذي فيه، وبذلك يحيي الآخر ويثريه ويعزز شعوره بالحياة وينعكس ذلك كله عليه إحياءً وحياة.
يؤكد إيريك فروم أن الحب فن كالرسم والموسيقى وفن الطب والهندسة، ويحتاج كأي فن إلى عوامل ثلاثة، إلى فهم نظريته فهما عميقا، وإتقان ممارسته بفاعلية وأن يصبح الهم الشاغل للمتعلم، وبالرغم من حاجة الناس للحب، وبرغم فشلهم الواضح المتكرر لتوقعات الحب، إلا أن كل شيء آخر في الحياة أصبح أكثر أهمية من الحب.. النجاح، المال، المكانة، القوة.. كل الطاقة البشرية موجهة لتحقيق هذه الأغراض، وكلها متعلقة بالأشياء، أما الحب، الحب الذي يتعلق بأغلى ما نملك وهي الروح، فتندر الطاقة التي نوجهها لنتعلم فنه.
أدركت سبب فشل الأغلبية العظمى من البشر في كل أنواع وصور الحب؛ لأنهم لا يعرفون كيف يمارسون فن الحب في حياتهم، لأننا لم نسمع عن دورات وشهادات لتعلم فن الحب، يقضي الواحد منا عشرات السنين لتعلم فن من الفنون بمنهجية منتظمة وبتركيز كبير وصبر جم. إلا الحب.. الحب رعاية ومسؤولية واحترام ومعرفة، الرعاية تتجلى في الاهتمام الفعَّال بحياة ونمو ذلك الذي نحب، وإذا نقص هذا الاهتمام الفعال فاعلم أن الحب ناقص، وما يقصد بالمسؤولية ليس الواجب الذي يفرض علينا من الخارج، ولكنه الفعل الإرادي الذي يصدر من الداخل، أن أكون مستعدا لأن أستجيب لاحتياجات الإنسان الآخر سواء عبر عنها أم لم يعبر.
وفي مقال مقبل بإذن الله سنتحدث عن الفرق بين حب الإنسان لذاته وحب الآخرين، ونرى أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما، كما سنعرض لكل من حب الذات من جهة والأنانية من جهة أخرى ونرى إن كانا متفقين أم مختلفين.
تنويه: ورد في مقال الأسبوع الماضي (الأنا وآليات عمل القدر) خطأ مطبعي، حيث وردت كلمة (مسير)، والصواب (ميسر) لذا لزم التنويه.