منطقتنا العربية في أسوأ أيامها منذ قرون، هل هناك داعٍ لنقاش هذه الفكرة أو إثباتها؟ يكفي أن ننظر إلى سورية، العراق، ليبيا، اليمن، مع استعادة النظرة الدائمة لفلسطين وإلقاء نظرة خاطفة إلى السودان، لبنان، يكفي ذلك دون كثير من التفاصيل لتصبح الجملة الافتتاحية حقيقة متفقا عليها.

كانت العرب تصف الأوضاع حين تسوء، والمصائب حين تأتي بعبارة: (نزلت بنا النوازل)، وهذا حقاً ما يجري بنا اليوم، فقد نزلت بنا النوازل، ونزلت ثم نزلت، حتى بات نزولها دون قاع، وترقبها دون معنى، وألمها مجرد تكرار.

في كل صباح منذ خمس سنوات، نستيقظ على خبر أو حدث أو صورة تمزق قلوبنا وتشعرنا أننا وصلنا إلى القاع، في الصباح التالي، نستيقظ على قاع جديد، أكثر انخفاضاً من السابق.

في الأيام الماضية تناقلت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تفاصيل لحادثة موت 71 مهاجراً سوريا مختنقين في شاحنة مخصصة لنقل اللحوم ضمن الأراضي النمساوية، بدت تفاصل الحكاية والصور المنقولة للجثث المتكدسة وكأنها قاع المأساة السورية، بعد يومين فقط نقلت وسائل الإعلام نفسها صورا لطفل غريق جرفته الأمواج إلى الشاطئ، اهتم البعض بتبيان اسم الطفل ومن أين أتى، وممّ فرّ؟ واهتم البعض بموقع الطفل وأهله من الحرب الدائرة في سورية. وكأن ذلك يهم حقا.

فالطفل السوري الكردي يمكن أن يكون أزيديا عراقيا، ويمكن أن يكون مسيحيا سوريا، ومسلما ليبيا، يمكن أن يكون بأي انتماء تفصيلي من تلك الانتماءات المتعددة والمتداخلة التي تجتمع جميعها في انتماء خطر واحد، هو الانتماء إلى هذه المنطقة المنكوبة.

وهو مع آلاف الحكايات والصور الأخرى، إثبات جديد على أننا نرتطم بالقاع، وأن هذه هي أيامنا الأسوأ.

يشكل الزمن وقطرات الماء المتساقطة صواعد ونوازل في الكهوف، تجمع ذرات الأملاح والمعادن عبر آلاف السنين لترسم أشكالا غرائبية، والزمن والماء في عملهما البطيء المضني ذاك، لا يميزان بين الصعود والنزول، وكل من زار كهفا (أشهرها في منطقتنا مغارة جعيتا في لبنان) يرى بأم العين التشابه والتقارب بين تلك الكتل النازلة وتلك الكتل الصاعدة، وكأن كل قطرة تنقسم إلى اثنتين واحدة تتجمع نزولا وواحدة تتجمع صعودا.

في النوازل التي تنزل بنا، لا بد من صواعد تتشكل الآن، ربما كنا لا نراها، لكنها حتما تتشكل، فهذه طبيعة الحياة، والإيمان بالعدالة الإلهية يدفعنا أحياناً لتوقع شيء إيجابي في أي شيء سلبي، والأمل يجعلنا نرى أشياء دون أن نراها.

المآسي والأهوال التي تعصف بنا وبمنطقتنا، وملايين البشر الذين يعانون الجوع والخوف والألم وفقدان الأمل، كل هذه لا بد أن تتجمع وتتجمع لتصل إلى حد يغير مسار الأحداث، إن لم نقل يغير مسار التاريخ، ووفق أبسط قوانين الفيزياء -والطبيعة كذلك- فكل تغير كمّي يتراكم بإيقاع محدد، لا بد أن يحدث تغيرا نوعيا، فالماء حين يسخن ببطء وتتغير كمية حرارته سيصل في لحظة ما لدرجة حرارة تحوله إلى بخار وتحرره في الهواء، والبشر والمجتمعات الذين يسخنون ببطء، لا بد أن يصلوا إلى لحظة تتحول فيها حياتهم، ويتحررون في الهواء.

ليس السوريون فقط من يموتون تحت القصف وفي عرض البحر وعلى الشواطئ وفي صناديق الشاحنات، وفي المعتقلات والسجون؛ معلقين على دولاب التعذيب لدى أجهزة المخابرات، أو مصلوبين على أعمدة المدن الأثرية لدى داعش، كل أبناء هذه المنطقة يفعلون ذلك، ومن لا يفعل الآن، فهو عرضة لذلك، ما لم يستيقظ العقل في هذه المنطقة، ويدرك الطغاة أنه لم يعد في الحياة متسع لأمثالهم، وأن التاريخ قال كلمته فيهم، وما لم يدرك العالم أن الظلم في أي مكان يهدد العدل في كل مكان، وأن على النوع الإنساني مسؤولية أخلاقية تجاه ما يجري في هذه المنطقة.

الموج يجرف جثث السوريين إلى الرمل، والجوع يفتك باليمنيين، والقنابل تمزق أجساد العراقيين، والليبيون أسرى لدى أمراء الحرب المتقاتلين، الفلسطينيون في شتات الأرض، ومن بقي منهم يعيش تحت حصار خانق يخلو من كل شيء، اللبنانيون يعيشون في دولة ليست دولة.

نزلت بنا النوازل، ثقبت رؤوسنا وقلوبنا وأرواحنا، أما من أمل صاعد؟