يتساءل البعض عن سر العقول التي يستطيع الإعلام الداعشي تجنيدها، وكيف تغتال دعايتهم عقول البعض وقلوبهم وعزائمهم فيسقط عندهم الدليل الشرعي والمنطقي والواقعي وكأنهم جاؤوا إلى الدنيا من غيابة الجب أو ينظرون إلى الكون بأسره من أنبوب صدئ.
وكي ندرك سبب هذا الانهيار العقلي الذي يصيب أتباع هذا الفكر لا بد أن نستحضر أن السَحَرة والمشعوذين والأفاقين منذ الأزل وإلى أن يشاء الله يعتاشون على أصحاب العاهات النفسية والأمراض القلبية، ويُسَوِّقون إفكهم عبر تضخيم الأوهام وتقريب الأماني، ويعبثون بالتناقضات التي تعترضهم، فتارة يَجِدُون مصلحتَهُم في إبرازها وتجليتها وتكبيرها، وتارة يجدون مصلحتهم وترويج شرِّهم في ادِّعائها، أيْ: زعمُ ما ليس بمتناقض متناقضا، وتارة يجدونَها في طمس هذه التناقضات وإرغام العقول على تقبل الجمع بينها واعتبارِ تلك التناقضات أصلاً والاتساق تناقضا.
وحين تتأمل رواد المذاهب المنحرفة عن شرائع الله تعالى أو المتمردة على الفطرة الإلهية للإنسان نجد أن بواطنهم لا تختلف كثيراً عن أولئك السحرة والمشعوذين، لكن مُرِيدِي الفريقين يختلفون في عمق مُصَابِهم من تلك العاهات والأمراض وفي مُسْتَقَرِّها من قلوبهم وأذهانهم.
ويُمكنني وبكل يُسر أن أُطَبِّق هذه القاعدة على السحرة وأتباعهم كما أُطبقها على رُوَّاد الانحراف الديني والفِطري والفِكري ومريديهم من أول الدهر حتى زماننا، ولا أظن ذلك ينخرم إلا في النادر الأقل وربما لا ينخرم البَتَّة.
والمُتَّكِئُ على أَرِيْكَتِه حين يقرأ هذا الكلام قد يُحَرِّكُ شفتيه عَجَبَاً أن يَكُون على الأرض عاقل يقبل بتصور اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما فضلاً عن أن يعتقد أن التناقضَ أصلٌ وأن الاتساقَ تناقضٌ، لكن ما نَصْنَع، فها هي أمامنا البشرية جمعاء، وغالب انحرافاتها عن منهج الحق: تفريق بين متشابهات أو جمع بين متناقضات، أو تصوير للأوهام في صورة الحقائق، أو اتباع لأحلام لا تخدِمُها أدواتُ الواقعِ، أو الجمع بين ذلك كُلِّه.
فكل انحراف عقدي أو فكري أو فِطْري إنما يُلْتَمَسُ رواجُه عند فئة ممن يمكن تسميتهم بالمرضى، حيث يبحث رُوَّاد ودُعَاةُ هذا الانحراف مَوَاطِنَ المرض في فئة من الناس والضعف والانكسار فيهم، فيؤسسون تعاليمهم بناء على تلك الاحتياجات المرَضِيَّة، وليس الاحتياجات العلاجية، فدُعاة الانحراف الفكري يجدون في هؤلاء المرضى فئة مؤهلة وحدها لتجاوز كل العوائق المنطقية والإيمان بأي فكرة عوجاء دون الالتفات إلى مبانيها العقلية.
فالماركسية مثلاً انحراف عقدي وفكري وفطري، لكنه لاقى رواجاً عند فئات كبيرة من الناس في شتى أنحاء العالم، ومنها البلاد الإسلامية، وكان معتنقو هذا الفكر مرضى حالمين، لا تكاد تجد منهم أحداً إلا وهو مُصَابٌ بداء الحِقد، إما على الدين والأعراف والتقاليد، أو على الأغنياء والحكومات، وكذلك هم حالمون بعصر يستطيع فيه الإنسان أن يعيش بسلام دون الحاجة إلى كل هؤلاء، فلا أغنياء ولا أديان ولا عوائد، ووجد في نظرية ماركس ما يلبي حاجاته المَرَضِيَّة، فهي نظرية تُفَلْسِف الحقد على الديانات والعوائد والأخلاق وتُصَوِّره المِثال الذي ينبغي تَطَلّبه، وما عداه هو الشر المحض الذي ينبغي سحقه، وقد تممت الماركسية تلبية حاجة النفوس الحاقدة، بقولها بحتمية الثورة الحمراء التي تقتل كل المدافعين عن الطبقات الغنية أو الماضي الرجعي في مواجهة المد التقدمي.
وكانت تعاليمُ الماركسية حشداً من الأفكار المناقضة لمُسَلَّمات العقل ومُسَلَّمات الفطرة، ولا تحمل أي شيء مغرٍ سوى تكوين حُلُم يستحيل جعله واقعا، لكنَّ الشُعورَ باستحالة وُجُوده يتضاءل بل يضمحل أمام تلك النفوس المُعَبأة بالأحقاد والتي استطاعت الدعاية الماركسية إسكانها في عالم من الأحلام، لذلك كان دُعاة الماركسية في كل مكان يعملون على نشر النظرية عبر مسلكين لا ينفصل أحدهما عن الآخر: التعبئة بالحقد على الطبقات والحكومات، والتغني بالحلم القادم وهو عالم العدالة والحريّة والمساواة، والربط بين هذين المسلكين يكون بإثبات أن الثاني أي: حلم الحرية والعدالة والمساواة يستحيل أن يتحقق دون سحق الطبقات للوصول إلى مجتمع المزرعة الجماعية، والاستغناء التام عن وجود الدولة.
كانت الحروب الشنيعة والاضطرابات الفكرية والانهيارات السياسية وغيرُها من العوامل قد تضافرت بشكل غير مسبوق لإيجاد عالمٍ ممتلئٍ بالأمراض المناسبة لِتَقَبلِ هذه المُعادلة الماركسية التي بلغ من نجاحها أن استطاعت تكوين عدد من الدول التي تسير وفق تلك النظرية، منها دولتان عظميان (روسيا والصين) ودول كثيرة في مختلف القارات مما يسمى بالعالم الثالث، حتى الدول التي بقيت محتفظة بأيديولوجيتها القديمة كانت مخترقة حتى النخاع بالعناصر الماركسية المريضة والتي تتغذى على الأحقاد والأحلام.
ومع مراعاة الفُرُوق التي يفرضها اختلاف الزمان والمكان والإنسان والجذور الأيديولوجية، فإنني أجد تشابهاً مؤثِّرا من حيث مُحرِّكَات النشأة وبواعث الانتشار -لا من حيث التكوين الفكري- بين القاعدية "أي فكر القاعدة وما فرَّخَت من تنظيمات" والماركسية، وذلك وفق المُنْطَلَق الذي صَدَرْتُ عنه وصدَّرْتُ به حديثي.
فماركس صنع الأحلام لأتباع نظريته الممتلئين أو المُعَبئين بالأحقاد والتي جعلتهم يفقدون البصيرة فلا يَرَوْن المدى الشاسع بين الحلم الماركسي والمعقول.