بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قال أحد الفلاسفة الألمان: "إنها ليست هزيمة للعسكر، بل هزيمة للنظام التعليمي في ألمانيا".
حينها أدركت ألمانيا أن قرارا شجاعا يجب أن يتخذ، وكان قرار التغيير الجذري للسياسة التعليمية في ألمانيا نقطة التحول الرئيسية لكل شيء فيها تقريبا. وهذا يوضح أهمية وقيمة ركن التعليم في الحياة البشرية، ومدى تأثيره على ترتيب المجتمعات الإنسانية وتقدمها.
قبل أيام قليلة طالعت خبرا يتحدث عن خطة تعليمية جديدة تُطبخ على مكتب سعادة وزير التعليم "عزام الدخيل" جاء فيه (شرعت وزارة التعليم في وضع آلية يتم بموجبها منح إدارات التعليم استقلالية إدارية ومالية كاملة على غرار الجامعات. ووفقا لمذكرة "تسبيبية" شارك في وضعها: هيئة تقويم التعليم، ومجلس الشورى، ووزارة التعليم، فإن التوجه الجديد يأتي منسجما مع قرار توحيد التعليم بشقيه العام والعالي ضمن وزارة التعليم، وذلك بالاستفادة من تجربة الجامعات؛ ما سيؤدي إلى تحويل عمل وزارة التعليم في شقها "العام" من جهة تنفيذية وتنظيمية ورقابية إلى جهة تنظيمية رقابية أسوة بما يتم حاليا في التعليم "الجامعي").
ووفق التوجه الجديد فستتحمل إدارات التعليم مسؤولية إجراءات التعليم العملية ومتابعتها، فضلا عن فعالية ممارسة تلك الإدارات في المناطق للعمل التنفيذي الكامل في الجانبين الإداري والمالي، والذي يتماشى مع فكرة سابقة بوضع ميزانيات مستقلة للإدارات، مما يحقق ترتيب أولوياتها واحتياجاتها ومشروعاتها، وأكدت الجهات الرسمية الثلاث أن من شأن هذا التوجه: فتح فرص وظيفية للقيادات، وتدعيم فرص الترقي والمنافسة الإيجابية بين الإدارات، وتحقيق "الاستقرار والثبات للمعلمين/ المعلمات، من خلال ارتباط وظيفة المعلم والمعلمة بميزانية المنطقة وحاجتها الفعلية من التخصصات"، والذي بدوره سيتيح مرونة أكثر في حركة النقل الخارجي بين المناطق، إذ إن 80% من رغبات النقل الخارجي تكون ضمن إطار المنطقة نفسها، إضافة إلى إمكانية إيجاد حلول لمشكلة التنقل اليومي للمعلمات".
وهذا الخبر إن صح، فإن التعليم في المملكة العربية السعودية على مشارف تحول عظيم لا مثيل له على المستوى العربي، سيمكنها من القفز بخطوات كبيرة إلى مصاف الدول المتقدمة في المستقبل القريب، خاصة بوجود العنصر البشري الذي سيحظى بتعليم وتدريب جيدين، في ظل وفرة المواد الخام الطبيعية التي يعتمد عليها النظام الاقتصادي العالمي.
هذه السياسة تعني التخلي عن بيروقراطية النظام التعليمي الحالي، الذي يعتمد مركزية القرار والتفرد به، والهروب من مأزق نظام (الهرم المقلوب) الذي يجعل من التعليم والمدرسة والمعلم أرقاما في آخر القائمة عمليا!
الدخول إلى نظام يعتمد ترتيب الأولويات الأكثر أهمية، من خلال منح إدارات التعليم في المناطق صلاحيات أوسع لاتخاذ القرارات السريعة، دون الحاجة إلى الرجوع الدائم إلى المركز في كل صغيرة وكبيرة، أي أن يكون مصدر الاقتراح والقرار هو القاعدة الأعرض وليس رأس الهرم، سيجعل الاهتمام الفكري والإنفاق المالي الأكثر من الميزانية ينصب على التعليم بذاته، وليس على جيش الموظفين الإداري في سلك التعليم، وهو ما يحدث في كل الدول العربية، لأن مشكلة التعليم الأزلية في الوطن العربي والخليج تكمن في بيروقراطية سياسته التقليدية أحادية القرار التي نشأ عليها منذ أول يوم ولم يحاول ولو على خجل تبديلها، فاختنق المجتمع مع تسارع المتغيرات المختلفة على كل الأصعدة تقريبا، وتسببت في خلق فجوة مستمرة بالاتساع، في ظل تأخر القرار بالتحول إلى سياسة تعليمية فاعلة تحاكي زمنها. لكن هذا القرار -إن تم على عظمته- بحاجة إلى رجال عظماء، ليست لديهم أولويات أكثر من التعليم الذكي وبناء الإنسان الأذكى.