نشاهد بين فترة وأخرى مقاطع مصورة لخلافات بين موظفين ومراجعين أو موظفين ومواطنين تظهر لنا شيئا من صور العنف في المجال العام. هذه المشاهد تؤثر في الرأي العام وتحرّك الجدل باتجاه حلول أو موظفين ومواطنين، غالبا ما تؤدي إلى إعفاءات وتحقيقات. كل هذا الحراك مفيد وأبرز ملامحه تلك الدائرة المتكاملة من الفعل ورد الفعل. القرارات التي تتم على أرض الواقع قد لا تمثل الحلول المناسبة لحجم المشكلة، وقد تكون حلولا جزئية وفردية ولا تتجه إلى صلب المشكلة ولكن الشاهد الإيجابي المهم هنا هو أن المشهد الأساسي يثير ردود الفعل، وأن هذه الردود تثمر عن قرارات على أرض الواقع. المهم هنا هو المحافظة على هذه الحالة وتطوير مستوى التفاعل والحلول للوصول إلى مستويات أكبر من التفاعل مع المشاكل وحلولها.
هذا المقال سيكون محاولة في هذا الاتجاه. سألفت الانتباه هنا إلى القوانين العامة الرحيمة. أي القوانين المتجهة من منظور العدالة باتجاه الفئات الأقل حظا في المجتمع. قوانين تتوجه لخدمة الأطفال والمرضى والفقراء والمعاقين وكبار السن.
طبعا هناك جهات معنية بشيء من هذه الأمور مثل وزارة الشؤون الاجتماعية وما شابهها، لكن المقصود هنا هو وجود مبادئ أخلاقية وقانونية يتم تطبيقها على كل الشؤون المتعلقة بالشأن العام. بمعنى أن هذه القوانين يجب أن تكون من المعايير الأساسية لتصاميم الطرق والأحياء مثلا. المنطق المقترح شبيه بهذا المبدأ: لا بد أن يتوفر في كل الأرصفة ممرات مناسبة لمرور عربات ذوي الاحتياجات الخاصة. يجب أن تتوفر في كل مواقف للسيارات مواقف مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة. يجب أن تتوفر أمام مدارس الأطفال دورية مرور تنظّم دخول وخروج الأطفال بأمان. يجب أن يتوفر في كل مدرسة إجراء دقيق للتأكد من أن كل طفل قد تناول وجبة الإفطار. هنا لا بد من التفريق بين القوانين الأولية والقوانين الثانوية. القانون الثانوي لا يمانع من إرسال دورية لكل مدرسة لتنظيم السير ولكنه لا يجعله إلزاميا. بمعنى أن وجود الدورية من عدمه خاضع لحسابات القيادات في مراكز المرور وظروف عملهم. المطلوب هنا هو تغيير هذه الظروف وليس الخضوع لها. أي أن تكون هذه القوانين من القوة والإلزام بحيث أنها توفر الظروف والضرورة القانونية لجعل توفير الدوريات أمام المدارس أمرا لا يمكن التهاون فيه. بمعنى أن نكون أمام مبادئ قانونية ذات تأثير حقيقي ومباشر على أرض الواقع.
مثل هذه التشريعات لها قبول كبير عند الناس ومن السهل دعمها والحفاظ عليها. ألاحظ على سبيل المثال رقابة قوية من الناس في وسائل التواصل الاجتماعي على السيارات الحكومية التي تقف في مواقف ذوي الاحتياجات الخاصة. هذه الرقابة المستمرة شاهد على أن الناس حريصة على مثل هذه القوانين ومستعدة لتوفير الرقابة المستمرة عليها. هذه المرحلة من وعي الناس هي أكبر الضمانات لتطبيق القوانين في أي مكان. تلاحظ مثلا في الدول التي أصبح احترام الدور في الانتظار جزءا من الثقافة أن الناس هي من تتولى تطبيق هذا المبدأ بنفسها. بمجرد أن يتجاوز أحدهم دوره فإن الناس تلاحظ وتتحدث معه مباشرة. في مثل هذه الأجواء فإن الباقي يكمن في البنية القانونية الواضحة والصريحة؛ لجعل حقوق هذه الفئات من ضمن الأولويات غير الخاضعة للظروف اليومية للعمل.
تعزيز الوعي بأهمية قوانين الرحمة والعدالة يجب كذلك أن يتم التأسيس له عمليا من خلال البنية التعليمية. بمعنى أن هذه القضايا يجب أن تكون جزءا من التجربة التعليمية للطالبات والطلاب. الهدف هنا أن تعلم الطالبة أنها جزء من مجتمع وأن هذه المجتمع لا يمكن أن يعيش ويستمر بدون أن يتكافل كل أفراده. هذا التكافل يعني أن يقف القادر مع العاجز لتسهيل أمور حياته. زيارة إلى دور المسنين مثلا قد تكون مثالا على هذا التعليم. هذه الزيارة تحتاج إلى أن تكون فاعلة ونقدية وليست مجرد مرور بدون تأمل. بمعنى أن الطالبة تذهب إلى هذا المكان للتعرف على ظروف الناس فيه ومدى ملاءمة هذه الظروف لمبادئ العدالة التي يستحقها البشر المستفيدون من هذه الخدمة. التعليم هنا يفترض أن يؤسس لعملية أعمق وهي مساعدة الطالبات والطلاب على الوعي بوجود فئات مختلفة في المجتمع. بعض المجتمعات لديها قدرة عجيبة على إخفاء بعض أفرادها. في بعض المجتمعات لا ترى ذوي الاحتياجات الخاصة في الأماكن العامة، وتحرص العوائل على عدم اصطحاب أطفالها من هذه الفئة معها في المناسبات العامة. التعليم يفترض أن يقاوم هذا الإخفاء من خلال إظهار كل فئات المجتمع على مسرح الوعي الجمعي. حضور كل الفئات أمام ضمير الطلاب يفترض أن يؤدي إلى حضورهم في تفكيره حين يفكر في الشأن العام. العقبة الأساسية أمام إصلاح من هذا النوع أن ينسى الناس ضعفاءهم أو يفكروا فيهم لاحقا. الصوت الضعيف لهذه الفئات علامة على أنانية التفكير العام. الأناني مشغول بذاته ولا يعرف الآخرين إلا حين يحتاج إليهم. العدالة في المقابل تعني حضور الجميع في الحسبة العامة. حضورهم حين نخطط للقانون الذي سيشمل الجميع.