في ليلة الخميس الماضية، وللسنة الثالثة على التوالي يصنع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي التابع لأرامكو ضمن برنامج "اقرأ" ما لم تصنعه المؤسسات الثقافية الرسمية. ما يميز صناعة هذه الثقافة المختلفة عن السائد في المؤسسات الحكومية أنها استفادت من كل أدوات العصر والميديا وتقنيات الصورة الحديثة، بحيث تقدم الأعمال الثقافية الجادة في إطار ترفيهي بصري مبهر مما يجعلها تتجاوز الأطر التقليدية في صناعة الثقافة، حيث الجيل الحديث الذي يجنح إلى دمج ثقافته الجادة بالثقافة البصرية في كل مجالات حياته. هذه الرؤية لا يمكن أن يصنعها إلا المثقفون الشباب الذين كانت لهم هذه الأدوات فاعلا ماديا حقيقيا في إعادة إنتاج الثقافة، فعلى كل التحذيرات العديدة التي يمارسها بعض المثقفين الغربيين، وكذلك بعض مثقفي العرب من هيمنة وسائل التواصل الحديثة والإعلام الرقمي الحديث على الخطاب الثقافي إلا أنها من منظور آخر يمكن لها أن تختصر وتعيد إنتاج الثقافة من جديد في وسائل حديثة ذات بنى بصرية أكثر تأثيرا من البنى التقليدية.

يعترض عالم الاجتماع جون تومسون على أطروحات هابرماس في المجال العام حول وسائل التواصل الحديثة، وكذلك أطروحات جان بودريار بوصفها أطروحات تجنح إلى الرؤية السلبية في المتلقي، أي أنه متلق سلبي يمكن أن يستقبل أي شيء مما تطرحه الوسائل الحديثة من غير أي فاعلية نقدية تجاهها، في حين يرى طومسون العكس من ذلك، حيث يعد امتلاك هذه الوسائل يعين على تعزيز القدرات والمهارات وتطور المعرفة البشرية، ويأخذ بها إلى أبعاد أخرى ويعمل على إعادة إنتاج الثقافة بشكل مختلف عما كانت عليه. (راجع جدنز: علم الاجتماع ص 516)، ومن خلال هذا المنظور تتحول الثقافة الشبابية إلى ثقافة بصرية تعيد منتجة الثقافة التقيدية بشكل أكثر قرباً للمشاهد وربما أكثر إمتاعا، وهذا ما راهن عليه المنظمون في مركز الملك عبدالعزيز من خلال مبادرة إثراء المعرفة وبرنامج "اقرأ" حيث يخلط الشباب القارئون (وهم بالمناسبة في المراحل التعليمية الجامعية وما دونها) بين الاطلاع الجاد على مختلف المعارف الفلسفية والفكرية والأدبية والعلمية والتاريخية وبين تقديمها من خلال لعبة بصرية غاية في الإمتاع، إلى جانب حضور الفنون التشكيلية والتصويرية والسينمائية في عرض ما يمتلكون من معارف وكتب أثرت في تفكيرهم.

هذه الخلطة العجيبة لا يمكن أن نجد لها مثيلا في المؤسسات الثقافية الرسمية التي تهتم بتعزيز ثقافة الشباب، سواء في وزارة الثقافة وأنديتها الأدبية، أو وزارة التعليم والجامعات السعودية، أو حتى الرئاسة العامة للشباب، فهي مؤسسات أشبه ما تكون بالمتكلسة ثقافيا لكونها غير مستقلة، وسبق أن طرحت أهمية مفهوم الاستقلالية الثقافية للمؤسسات الرسمية من قبل، وهذا ما يبدو عليه مركز الملك عبدالعزيز في إثرائه المعرفي، حيث لا جهة رسمية حكومية وضعت يدها عليه، وربما كان ذلك بسبب أن أرامكو هي التي بادرت بإنشاء هذا المركز، وعلى ذلك كانت له استقلاليته الخاصة ليصنع لنا ثقافة مختلفة عن السائد.

الإشكالية التي يمكن أن تبرز وربما تعيق حركة هذا المركز هي أن المؤسسات الثقافية الرسمية يمكن أن تزحف أو تفكر أن تزحف على هذا المركز، خاصة أنه ينشر عمله في كافة مناطق السعودية ولا يقتصر على المنطقة الشرقية فقط، ولعلي أحدد أكثر ثلاث جهات عرف عنها تجيير أي عمل ثقافي لصالحها حتى لو لم تتبناه من البداية، أو تدعمه مالياً وهي: إمارات المناطق، ووزارة التعليم، ووزارة الثقافة.. هذه المؤسسات الثلاث غالبا ما كان لها تأثير في تجيير أي عمل ثقافي لصالحها إن نجح اجتماعيا، أو العكس تماما في حال خالف العمل الثقافي رؤيتها التقليدية التي ربما خالفت (بعض) المتمسكين بالتقليدية، فتمنع العمل أو تتبرأ منه مهادنة للخطاب الديني السائد، وفي كلا الأمرين فإن محاولات عملية اختطاف نجاحات الآخرين، وتجييرها لصالح هذه المؤسسات الحكومية مشهود في أكثر من مكان، وقد تنجح محاولات الاختطاف هذه أو تخسر، لكن فكرة وضع اليد عليها هي بحد ذاتها فكرة تنم عن مشكلة بيروقراطية في البلد، حيث لا استقلالية لأي مشروع ثقافي أو اجتماعي.

حتى الآن بقي هذا المركز ومبادراته الثقافية العديدة في منجاة من عمليات التجيير والاختطاف الرسمي؛ لكونه أرامكوي الدعم والمبادرة والفعل، لكن يبدو أن بوادر من محاولات التجيير تلوح في الأفق، ولعلي أضرب مثالا صغيرا وإن كان لا يصرح بمحاولة التجيير، لكنها علامة من العلامات على هذه الرغبة، والعلامات لها مدلولاتها المعتبرة في النقد السيميائي، والعلامة التي أضرب بها مثالا هنا هي في صعود وزير التعليم عزام الدخيل (مع حفظ الألقاب) إلى منصة الحفل الختامي لبرنامج "اقرأ" ومحاولاته لفت الأنظار إليه من خلال مجاراة الطلاب في طريقة تقديمهم لخطابهم الثقافي، ودار الحديث فيه عن  قصة خاصة، بدلا من الحديث عن البرنامج الذي جاء ضيف شرف عليه. ما الذي يجعل الوزير يذهب إلى تلك النقطة، لا أجد سوى رغبة عميقة في المؤسسات الرسمية لتجيير كل نجاح لصالحها، وتسليط الأضواء على منجزات الآخرين بوصفها منجزات رسمية؟

درجت العادة أن كل نجاح هو نجاح للمؤسسة الرسمية بوصفها الحاضن الرسمي لأي عمل ثقافي أو اجتماعي أو خدماتي، مع أن الحقيقة أن النجاح فردي، وقليل جدا ما كان للمؤسسات الرسمية دور فاعل فيه، وإن كان هناك من دور هو فقط أن جاء العمل تحت غطاء أو مظلة رسمية لمن يريد العمل لا أكثر، وعادة ما تتملص المؤسسة الحكومية من مهامها في حال أي فشل غير متوقع، ولذلك فمن المهم العمل في رؤية استقلالية منذ البداية لكي لا يتم اختطاف أي عمل ناجح.

نجاح المبادرات الثقافية الشبابية الإثرائية لمركز الملك عبدالعزيز مرهون تماما بمدى استقلاليته عن أي جهة رسمية تريد وضع يدها على المنجز الثقافي الذي يعمل عليه المركز، فالثقافة من غير استقلالية في الرؤية وفي الدعم المادي ليست في الأخير إلا ثقافة رسمية منفرة؛ هذا إن سلمت من الاختطاف الأيديولوجي الذي تتصارع عليه التيارات السعودية.