الكتابة أحيانا تقف بنا على حدود إنسانية تستدعينا وتسترعينا؛ موقف واحد، وأحيانا عبارة واحدة تشف عن مدى إنسانيتك في التعاطي مع البشر.

كم كتبنا عن مواقف لم تكن ملامسة لنا لكنها لامست دواخلنا بعنف، كطفل انكفأ على وجهه ولفظه البحر كما لفظه البر في وطنه ليبحث عن حفرة في أرض لم تكن يوما له خارطة واتجاهات لم تكن يوما بوصلته! لم نعرف الطفل؛ بل لم نر ملامحه لكننا رأينا الواقع الذي أفضى به إلى مكانه!

أمام غرفة الطبيب عبرت أمامي سيدة ترافق خادمتها الإندونيسية إلى غرفة الفحص، خرجت لاحقا وأنا مشدودة بفضولي لمعرفة سبب قدومها لهذا القسم، فلا بد أن الخادمة تعاني مشكلة كبيرة لتقف أمام باب جراحة المخ والأعصاب. سألتها لاحقا حين عادت لتقف أمام باب العيادة مرة أخرى عن حالة الخادمة فقالت: "هذه الخادمة عملت 27 عاما عندي، وعانت آلاما مبرحة وتحتاج إلى جراحة، أبقيتها، هي لا تعمل الآن، لكن من حقها عليّ أن أخدمها فقد خدمتني عمرها كله!"

لامست كلمات تلك السيدة روحي بشكل لا يوصف، ندمت أني لم أشكرها على إنسانيتها العظيمة، وهي تصف كيف جربت أنواع العلاج والتدليك لها لكن الحل الأخير الذي تقوم به هو الجراحة.

من جانب تأثرت لعظم إنسانيتها، ومن جانب آخر تألمت من موقف كل معلمة تلفظها وزارة التعليم على أبواب عيادات هذا المستشفى لتقف أمام أبواب العيادات المختصة بحالتها لا تنال حقها في الرعاية الصحية أو لا تنال توصيفا لحالتها إلا بالاستجداء!

القضية ليست وزيرا وليست وزارة تضخمت إداراتها النسائية والرجالية دون أدنى جدوى؛ فحين تحتاج معلمة إلى مراعاة وضعها الطارئ لا بد لها من الدخول في دهاليز وزارة الصحة التي ليست مختصة بها كمعلمة؛ بل قد يكشر الأطباء عن أنيابهم لها؛ لأنهم يرون فيها الموظفة المستغلة لهم للحصول على ما لا حق لها فيه!

فكروا معي والخطاب للمعلمات وللمعلمين، لماذا لا تحقق لنا الوحدات الصحية الرعاية الكاملة وتصدر لنا التقارير التي نحتاجها حين تأخذ منا السنون مأخذا؟ بل لماذا لا يوجد لنا مستشفى واحد يقوم على رعايتنا؟ لماذا أصبحت الإجازة المرضية حيلة سهلة لمن لهم أقارب في قسم التقارير الطبية بمستشفى حكومي ما، يصدرون لهم منها ما يريدون دون حسيب أو رقيب؟!

هناك استغلال وتهرب من العمل ساعد عليه أننا عالة على وزارة الصحة التي تقدم خدماتها للمقيمين والمواطنين ومن له حيلة فليحتل. المرأة صاحبة الخادمة وصلت إلى حقيقة أن الخادمة عاجزة عن العمل فساعدتها؛ أما الوزارة من أقل لأكبر موظف فيها فلا يمكن أن تصل إلى هذه الخلاصة البسيطة. بعد خروج الخادمة رفض طبيب الخادمة الجراح التعامل معي؛ لأنه يرفض أن يقدم أي توصيف للمعلمات يساعد على حصولهن على تخفيض نصاب أو تقاعد ولو كانت المعلمة مستحقة، وقالها بطريقة توحي أن المعلمة كائن من كوكب آخر!

الطبيب الإنسان يستقبل حالات من أصقاع الأرض ويرفض المعلمات اللواتي يمثلن عبئا على وزارة الصحة. موقف هذا الطبيب جعلني أفكر جديا في أن أطالب جميع المعلمين والمعلمات بممارسة حقهم الذي تمنحه لهم المواطنة، وهو العلاج في مستشفيات الدولة والتوقف فورا عن تنفيذ برنامج الخصخصة الذي يعود على جيوب هؤلاء الأطباء بمردود وافر، نسيت أن أخبركم أن الطبيب المشهور الذي عالج الخادمة يعمل جراحا في مستشفى خاص من المستشفيات التي نذهب إليها -نحن المعلمات- للعلاج لأن المستشفيات حبالها طويلة. بالتأكيد هناك لن يتعامل مع المعلمات بالرقة التي تعامل بها معي!

نرجع للأحجية، التعليم يعتمد على وزارة الصحة ووزارة الصحة تضيق بالتعليم، وتستقبل المواطنين والمقيمين والمواعيد بعد أشهر لأن الطبيب غير متفرغ، والطبيب السعودي في وزارة الصحة له عيادة أو مستشفى خاص يذهب إليه منسوبو التعليم للحصول على مواعيد بسرعة. قاطعوا المرض أيها المعلمون والمعلمات، أو قاطعوا أطباء المستشفيات الحكومية في المستشفيات الأهلية وخذوا حقكم منهم في الحكومية.

أخيرا كنت أنوي أن أكتب اسم الطبيب لكنني عدلت عن ذلك؛ لأنني اكتشفت أنه أوعز إلى قسم التمريض بحكم كونه رئيس العيادة ألا يعطوني موعدا ولا يحولوني إلى طبيب غيره؛ إمعانا في تقديره لحالتي الصحية التي يرفض توصيفها، فكفاني ذلك لأني اكتشفت أني أغظته بما يكفي للعمل في الخفاء. شكرا لإنسانيتك أيها الطبيب الذي ينتمي لمدينتي، ويكفي أن تعلم أن من راجعت بالمستشفى نصحوني بموعد عند الأطباء الباكستانيين الذين تحت إدارتك لأنهم متعاونون جدا!

أتمنى ألا يقرأ وزير الصحة ولا وزير التعليم هذا المقال، فأنا والجريدة لا نحتفظ باسمه.