الطائفية آفة ثقافية تجمع بين مرض نفسي وخلل عقلي وسلوك مضطرب؛ ولهذا فليس من المفترض بأن يكون لها منطق. ولكن استخدامي لعبارة منطق الطائفية؛ بافتراض بأن لها منطقا كما يعتقد الموبوؤون بها. إنه من الطبيعي بأن تكتشف أن لديك قصورا أو ضعفا أو مرضا بجسدك أو خللا في إحدى حواسك؛ لكونك تشعر بها مباشرة؛ وردة فعلها منك وإليك، وبلا وساطة. ولكن ليس من الطبيعي بأن تكتشف أنت أن لديك مرضا نفسيا أو خللا عقليا، أو سلوكا مضطربا؛ ولكن من الطبيعي أن يشعر بذلك غيرك، لكون غيرك هو من يشعر مباشرة بذلك من خلال وقوع أذى أمراضك عليه؛ أما أنت فقد تتلذذ بذلك لكونك تعتقد بأنك تحسن صنعا.

إذاً، فالطائفية ليست نتاج عقل محض أو إمعان في التفكير أو منطق رياضي؛ ولكنها نتاج مرض لا شعوري؛ يتكلف الموبوء بها في تبرير مرضه المؤذي لغيره عن طريق ما يعتبره منطقا لا يقبل الشك فيه وحدسا سليما لا جدال حوله؛ ولذلك وضعت المجتمعات الصحية والمعافاة نفسيا والمتزنة سلوكيا أنظمة وقوانين رادعة؛ للحد من خطورة الوباء الطائفي عليها، والحد من انتشاره فيها قدر المستطاع، فإذا ترك الوباء الطائفي يستشري في جسد المجتمع، مع محاولة "منطقته" الغبية، فإنه يتحول إلى عقيدة دينية أو مسلمة ثقافية يتداولها المجتمع؛ قد تشعل حروبا طائفية فيه أو حروبا طائفية خارجية بينه وبين غيره من المجتمعات المختلفة عنه.

ووباء الطائفية مثله مثل باقي الأوبئة الاجتماعية الوراثية كالعنصرية وحب إيذاء الآخر وغيرها من الأوبئة الخبيثة المعادية لأنسنة الإنسان والتعامل معه على أساسها؛ والتي تم توارثها عن الأقدمين بمنطقها الغابر والساذج والغبي ذي النزعة العدوانية في أحيان كثيرة، مثلما تنتقل الأمراض العضوية عن طريق الجينات من جيل إلى آخر، كذلك تنتقل جينات الأوبئة الثقافية عن طريق تحولها إلى عقيدة اجتماعية مغلفة دينيا أو مسلمة ثقافيا من جيل إلى آخر، فعندما تسأل مثلا الموبوئين بالطائفية، لماذا تضطهدون الطائفة الفلانية؟ قد يأتيك الرد سريعا، وكأنهم قد قبضوا على منطق أنيشتاين الرياضي في نظريته النسبية: بأننا لو لم نضطهدهم لاضطهدونا! وعندما تسألهم لماذا تعتقدون أنكم لو لم تضطهدوهم سيضطهدونكم؟ فيردون عليك وبكل تذاكٍ أحمق وأخرق؛ لأنهم يكرهوننا.

فإذا سألتهم، لو أن أشقاءكم اضطهدوكم وآذوكم وحرموكم من أبسط حقوقكم؛ هل ستحبونهم وتبرون بهم، ناهيك عن الغرباء عنكم؟ هنا يُسقط في أيديهم؛ حيث جواب الإنسان السوي يجب أن يكون لا لن أحبه؛ أي سأكرهه، وممكن أن أتصدى له، خاصة إذا تمادى في غيه وظلمه لي؛ لأوقفه عند حده، وأرفع الظلم والتعسف عن نفسي، وهذا حق من حقوق الدفاع عن النفس الذي أقرته جميع الشرائع والأديان.

ثم هل من المنطق أن تعتقد بأن فلانا يكرهك، وأنه لو تمكن منك لاضطهدك أو آذاك، بأن تعتدي عليه؟ وأثناء محاكمتك هل يقبل منك القاضي -أي قاض في الدنيا- منطقك هذا؟ بأنك اعتديت على غريمك كونه يكرهك، ومن الممكن بأن يعتدي عليك ويؤذيك إذا تمكن من ذلك! القاضي في هذه الحالة قد لا يحكم عليك بعقوبة إيذاء الآخر، ولكن من الممكن أن يطلب بعد إنزال العقوبة المناسبة -لجرمك- عليك، بأن توضع في مصحة نفسية لعلاج السلوك المضطرب وغير السوي لديك، وإذا تكرر منك هذا العمل المشين ضد أناس آخرين؛ ممكن أن يحكموا عليك بالسجن لفترة مطولة؛ لكف أذاك عن المجتمع.

المثال أعلاه واحد من جميع أمثلة الموبوئين بالطائفية، ويوجد هنالك ما هو أكثر سذاجة وحزنا وجرما منه، وبما أن وباء الطائفية يسري في الجينات الثقافية للإنسان، كما تسري بجسده الأوبئة الوراثية؛ فتفاهة المنطق الموبوء قد تسمعه من جاهل أخرق، أو من حامل أعلى شهادات علمية من أفضل جامعات الدنيا؛ ناهيك عمن يعدّ اضطهاد المخالف عملا يتقرب به العبد الصالح إلى ربه زلفى، ويعتبره من كمال دينه تحت قاعدة البراءة من المغاير.

قد تفاجأ أن من يتحدث معك إنسان قمة في العلم والفهم والثقافة، أو هكذا توقعته، فيصدمك بطرحه المنطق الطائفي المتهافت والمتهاوي والأخرق، وكأنه منطق متماسك لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه. إذاً، لماذا جمعت الطائفية في السذاجة وتفاهة المنطق وتهافته بين الإنسان بسيط الثقافة والتعليم وبين الشخص مرتفع الثقافة والتعليم، أو هكذا نحسبه يكون؟ الجواب عن ذلك، كون وباء الطائفية وباء ثقافيا يستشري في جسد المجتمع، كما تستشري النار في الهشيم؛ إذا ترك بلا ضابط أو رادع. وكون الوباء الثقافي يصيب النفس وعليه يخرم الذكاء؛ فيتساوى فيه الأغبياء والأذكياء في دفاعهم عن "لا منطقه". فعندما تتحدث مع مدير جامعة عريقة ومرموقة، وذات طابع غير ديني، وهو خريج جامعة عالمية عريقة وبتخصص يعتمد على التحليل العقلاني والمنطق، وتكتشف بأنه موبوء بوباء الطائفية، ثم تتعجب من ذلك، ردة فعله تكون بتعجبه من تعجبك كونه طائفيا، مع كونه لا يسمي موقفه بالطائفي، فيعصر ذهنه جاهدا ليثبت لك صحة موقفه، بثلاثة أمثلة حدثت في تاريخ مدته ألف وأربعمئة سنة، مع عدم التأكد تاريخيا ومنطقيا من وقوعها، وهي الأمثلة نفسها التي يسوقها ويرددها حامل شهادة كفاءة للتو حضر دروسا دينية هنا أو هناك.

ولنفترض صحة وقوع الأحداث الثلاثة في تاريخ مدته أربعة عشر قرنا، من طائفة ما، ولا نجد غيرها ضدهم، لهي إثبات على براءة من نعتقد بأنهم ارتكبوها؛ لكونها شذوذا، تثبت عدم صحة القاعدة؛ هذا في حال تخلينا عن منطق بأن لا أحد مسؤول عن جرم أحد غيره؛ ولو كان والده. إذاً، ما الذي جمع منطق وباء الطائفية بين البروفيسور مدير الجامعة، وحامل شهادة الكفاءة؟

الذي جمعهما هو أن وباء الطائفية هو وباء ثقافي، أي نتاج توتر نفسي وشحن عاطفي ضد الآخر، لا دخل لا للعقل ولا للمنطق ولا للشهادات العليا ولا الدنيا فيه؛ وعليه اجتمع مدير الجامعة في محاولة "منطقته" وباء طائفيته مع حامل شهادة الكفاءة. الوباء الثقافي لا دخل للعقل فيه؛ حيث هو نتاج خلل نفسي وتوترات عاطفية؛ يتحرك خلال أعصاب الموبوء به؛ لا من خلال عقله؛ ولذلك فليس بالمستغرب أن تناقش مع شخص عدة موضوعات معقدة، ويناقشك بكل هدوء ومنطق؛ ولكن عندما تتناقش معه في مسألة الطائفية؛ تجد أنه يتوتر ويحمر وجهه وقد ترتجف يداه، وهذا دليل على أن وباء الطائفية يسري ويحرك الأعصاب لا المخ؛ وهذا ما يفقد الإنسان إنسانيته ويجعل سلوكه ردات فعل غرائزية بهيمية.

المصاب بداء وباء الطائفية ضحية، ولا يجب أن يدان على طائفيته بشكل مباشر؛ ولكن من يدان على ذلك، وبشكل مباشر، من بيده سلطة لمنع مثل هذا الاحتقان الاجتماعي الخطير وكف شره عن الناس، أو على الأقل الحد منه، ولا يفعل ذلك.

شكرا لدولتي الإمارات والكويت، على سنهما قوانين تجرم الطائفية والعنصرية بجميع أشكالها؛ ونرجو قريبا أن يكون التشريع لجميع دول مجتمع التعاون الخليجي.