يحبس السعوديون أنفاسهم مرات عدة وهم يترقبون بوجل أخبار وحلول أكبر قضاياهم، وهي السكن، فرغم ضخ الحكومة السخي الذي تجاوز أكثر من 270 مليار ريال على المشاريع الإسكانية، إلا أن الأزمة ما زالت تدور حول نفسها للبحث عن مخرج.

الخبير العقاري صالح الدويش شخّص حال الإسكان المستعصية، واستعرض تجارب ناجحة جدا لثلاث دول، هي: سنغافورة والنمسا والمغرب، إذ وصلت بإمكانات ضئيلة جدا إلى حلول ناجعة، مكنتها في أوقات قياسية من تجاوز أزماتها السكانية بشراكة حقيقية مع القطاعات الخاصة.




صالح الدويش - باحث وخبير عقاري واقتصادي


الإسكان.. السؤال المحير

الدولة جادة في حل مشكلة الإسكان.. فهناك دعم حكومي هائل لمستحقي الإسكان، فقد رصدت 250 مليار ريال لبناء 500 ألف وحدة سكنية في خمس سنوات "أي بمعدل 100 ألف وحدة سكنية سنويا"، وفي عهد خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز، تم زيادة المبلغ بـ20 مليار ريال إضافية لدعم البنية التحتية لمخططات وزارة الإسكان وتسريع التنفيذ.

كما أن قروض صندوق التنمية العقاري التي تبلغ عشرات المليارات من الريالات سنويا أيضا على دعم الحكومة لمستحقي السكن.ولكن،،، كل الدراسات والإحصاءات تؤكد أن الفجوة الإسكانية كبيرة وتتزايد سنويا، وتتباين الإحصاءات بشكل كبير إذ تبلغ الفجوة الإسكانية السنوية في أحدها حوالى 160 ألف وحدة سكنية، "دراسة جامعة الملك فيصل ـ إدارة التخطيط الحضري"، وفي إحصاءات وزارة الاقتصاد والتخطيط "الخطة التنموية" فإنها تبلغ 200 ألف وحدة سكنية سنويا.

قاعدة: إذا كانت الإيجارات تتسارع بوتيرة عالية "كما هو اليوم" فاعلم أن الفجوة الإسكانية تتسع.

ولن أدخل هنا في تحديد من المتسبب في وجود هذه الفجوة الإسكانية وزيادة الإيجارات بوتيرة متسارعة في السنوات الأخيرة ولكن من المؤكد أن أزمة الإسكان مشكلة أخطبوطية ذات أطراف متعددة ومتشابكة. والأمر المؤكد الآخر هو ضرورة الإسراع في سد الفجوة الإسكانية حيث إن أي تأخير في سد هذه الفجوة سوف يراكمها بمرور الزمن، بحيث تصبح مستعصية على الحل.

ولكن السؤال.. هل مشكلة الإسكان محلية أم أنها مشكلة عالمية؟

تجارب عالمية في مجال الإسكان

المشكلة الإسكانية مشكلة عالمية لا تعرف دولا ولا حدودا، إذ إنها تواجه دول العالم كافة سواء كانت المتقدمة أو النامية منها، إلا أن الفرق بين الدول هو في مدى القدرة على مواجهة المشكلة والتصدي لها، وأننا عندما نستعرض التجارب العالمية في مجال الإسكان فإننا لا ندعي مثاليتها ولكنها وصلت لحد من النجاح يجب الاستفادة منه.

التجارب العالمية كثيرة سواء كانت في الدول الآسيوية مثل تركيا أو ماليزيا أو الصين أو في الدول الأوربية أو الأميركية وسنسلط الضوء فقط على ثلاث تجارب عالمية "سنغافورة وفيينا والمغرب".





حقيقة

 


أتمنى أن تقوم الوزارة بوزيرها الشاب بإعلان خطة ومؤشرات للإنجاز أو كما يسمى بلغة الأعمال "KPIS". وتمنى أن تكرر وزارة الإسكان نجاحات "أرامكو" في صناعة الأبطال "العليان وفؤاد والتميمي والهاجري والرشيد" وتصنع لنا أبطالا في كل مكان، في الرياض وفي جازان وفي عرعر وفي الأحساء وفي المدينة ومكة وكل مكان.

ويكون الإسكان "أداة" لتطوير الاقتصاد والمجتمع وليس مجرد "أزمة" تحتاج حلا، وتكون قصة نجاح جميلة نفتخر بها كما نفتخر بـ "أرامكو" ونتغنى بها كما يتغنى أهل سنغافورة بنجاحات "الإسكان" فيها.

الحقيقة.. أن الجميع "القيادة، والوزارة، والمواطنين، والعقاريين" ينتظر ولادة "بطل" في صناعة المساكن، فمن يا ترى يكون "البطل" ومن "يصنع التغيير"!!

 


المغرب ... قصة في الإنجاز!!

 


تعاني مدن المملكة المغربية الكبرى من وجود "مساكن الصفيح" في جوانبها إضافة إلى وجود فجوة إسكانية تقدر بـ 1.2 مليون وحدة سكنية في عام 2002.

•أطلق "الحسن الثاني" مبادرة إنشاء 200 ألف شقة سكنية بشراكة مع القطاع الخاص وتم تسمية المبادرة بـ"السكن الاجتماعي".

•تم منح المطورين إعفاءات ضريبية وجمركية شريطة أن لا يزيد بيع الشقة عن 250 ألف درهم مغربي حوالى "26 ألف دولار".

•تفاعل القطاع الخاص المغربي مع "السكن الاجتماعي" وتم توقيع 600 اتفاقية مع 450 مقاولا ومطورا عقاريا لتشييد "مليون شقة".


النتجية:

انحسار "مساكن الصفيح"، كما زاد المعروض من الشقق، ما أدى إلى نزول أسعارها بيعا وتأجيرا في السوق بشكل تلقائي ودون تدخل مباشر من الدولة.

 


وزارة الإسكان... الرغبات والمعوقات

هناك عدد من السمات والخصائص التي تميز "سوق الإسكان السعودي"، وسأحاول أن ألخصها فيما يلي:

1- أساليب البناء المتبعة هي الأساليب التقليدية التي تتطلب أعدادا كبيرة من العمالة ووقتا أكبر للتنفيذ.

2- النمط الغالب في التطوير العقاري هو التطوير "الفردي" وليس "المؤسساتي".

3- عدم وجود التمويل الكافي هو شكوى كثير من المطورين العقاريين.

وفي المعرض العقاري الذي عقد في أبريل 2015 كان هناك لقاء وكيل وزارة الإسكان المهندس محمد الزميع، مع المطورين العقاريين، لخص فيه رغبة الوزارة في نقطتين:

•الشراكة مع القطاع الخاص في بناء المساكن. وأن الاستراتيجية الوطنية للإسكان "التي لم تر النور بعد" تؤكد على قيام القطاع الخاص ببناء المساكن.

•تقليل المدة الزمنية لتنفيذ المساكن من خلال أنظمة البناء السريعة وبالتالي سد الفجوة الإسكانية بأسرع وقت ممكن.

كما أوضح أن الوزارة تسير في مسارين لسد الفجوة الإسكانية وبناء المساكن:

 


التجربة السنغافورية

بينما يظل الإسكان هاجس كثير من الدول، فإنه يعد قصة نجاح عارمة في سنغافورة، وهنا بعض الحقائق المهمة عن هذا البلد.

• من أصغر الدول مساحة في العالم، إذ لا تتجاوز مساحتها الـ700كم2.

• من أكثر دول العالم كثافة سكانية 6336 نسمة لكل كم2.

• بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، كانت سنغافورة دولة فقيرة بجميع المقاييس من الموارد والتعليم والصناعات وغيرها.

• بدأ الاهتمام في قضية الإسكان والتنمية منذ عام 1960 وتم تأسيس هيئة الإسكان "HDB" في ظل رئيس الوزراء لي كوان يو.

• لم تكن المشكلة الإسكانية في بداياتها تقتصر فقط على نقص المعروض من المساكن، بل إن المساكن السنغافورية في ذلك الوقت كانت رديئة جدا.

• لم تنظر الحكومة السنغافورية إلى مشكلة السكن كـ "إدارة أزمة" بل نظرت إليها بمنظور أوسع وأشمل، فالدعم الحكومي في مجال الإسكان سوف يسهم في تنمية المجتمع والاقتصاد.

• أصبحت هيئة الإسكان والتنمية "HDB" هي اللاعب الأكبر بمجال الإسكان سواء في مجال التنظيم أو التطوير أو التمويل أو التملك أو أيضا من حيث التأجير.

•قامت هيئة الإسكان بالشراء القسري للأراضي الخاصة، وتطورت مبان ضخمة بأسعار منافسة مستفيدة في ذلك من اقتصاديات الحجم الكبير.

• مساكن هيئة المساكن ذات جودة ومواصفات عالية وهناك برامج دورية للصيانة والترميم مما يؤخر في شيخوخة هذه المباني.

• تشجع هيئة الإسكان للسكان على تملك مساكنهم بدلا من الاستئجار، ومنحت المستفيد 60 ألف دولار لشراء المسكن، ويساهم صندوق التأمينات الاجتماعية في دفع الأقساط الشهرية، بل إن العائلات التي ليس لديها مساكن "Homeless" يمكن أن تستأجر بـ20 دولارا شهريا من مباني الهيئة التي تملك أكثر من 50 ألف شقة مخصصة للتأجير.

النتيجة: أن 92% من السنغافوريين يملكون منازلهم!!

فيينا... قصة نجاح أوروبية في مجال السكن

• كانت المباني في "فيينا" ذات جودة رديئة سواء من حيث التصميم أو مواد البناء أو حتى المكونات، إذ لم تكن المنازل في ذلك الوقت تحوي دورات مياه.

• بدأت فيينا بمعالجة مشاكل الإسكان في الثلاثينات من القرن الماضي فيما يعرف بـ "Red Vienna" (وهو اسم أطلقه الألمان على المدينة الوادعة)، وقامت ببناء 61 ألف شقة موزعة على أحياء المدينة، وقد كانت مبان ذات تصاميم وجودة رائعة، إلا أن البرنامج قد توقف بسبب الحكومة الفاشية آنذاك.

• بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت بلدية فيينا في برامج الإسكان وأصبح أحد أبرز أولوياتها.

• الإسكان الحكومي في فيينا ممول بدرجة أساسية من الحكومة حيث تحصل البلدية على حوالي 450 مليون يورو سنويا لهذا الغرض.

•تملك بلدية فيينا 220 ألف شقة أي ما يقارب ربع المساكن في المدينة.

• القطاع الخيري يملك 136 ألف شقة ممولة بشكل أساس من برامج الإسكان الحكومية.

•ضبطت الحكومة سوق التأجير بحيث لا يكون مجالا للمضاربة، كما سنت القوانين التي تضبط العلاقة بين المالك والمستأجر، كما تدنت الزيادات في أسعار التأجير.

• 80% من المباني الجديدة في فيينا مدعومة إما بشكل كامل أو جزئي من البلدية.

• الجزء الأكبر من الدعم الحكومي موجه للمطورين وليس للأفراد.

• جزء من الدعم الحكومي الموجه للمطورين يعد دعما مجانيا وغير مسترد.

• كل من يبني بيتا "للمرة الأولى" يستحق الدعم الحكومي ويستثنى من ذلك المساكن الفاخرة.

النتيجة أن..

60 % من سكان المدينة يسكنون في مساكن مدعومة من البلدية، كما أن سوق المساكن بالمدينة منضبط بسبب قدرة البلدية على زيادة المعروض من المساكن.

المسار الأول

طرح تطوير الوحدات السكنية على المطورين في منافسة عامة حيث تتلخص الخطوات في التالي:

o طرح "وثائق المنافسة" وشرائها من المطورين الراغبين في الاستثمار.

o يقوم "المطور" بتقديم أوراقه لتأهيله كـ"مطور معتمد".

o تأهيل "المطور" واعتماده ومن ثم تحديد الأرض التي سيتم التطوير عليها.

o تقديم المخططات المبدئية لاعتمادها من قبل الوزارة.

o يقوم "المطور" بتسويق الوحدات السكنية التي يرغب في تطويرها على المستفيدين.

o بعد نجاح المطور في تسويق ما لا يقل عن 50% من الوحدات المراد تطويرها، يقوم بتقديم الضمانات البنكية التي تضمن إنجاز التطوير في الوقت المتفق عليه.

o يتم تسليم الأرض للمطور.

o السماح للمطور بـ "البناء".




وثائق المنافسة

وقد قمت بتلخيص هذه الخطوات بناء على اللقاء السابق مع وكيل وزارة الإسكان، وما قمت به من اتصال ببعض المطورين الذين تم إرساء بعض المشاريع عليهم، إذ تم بيع "وثائق المنافسة" في أواخر شهر شعبان 1435، ولسبب أو لآخر فإن بعض المطورين لم يبدأ حتى الآن في أعمال البناء "أي بعد أكثر من سنة كاملة"، فالأمر الملاحظ هو طول فترة الدورة الإجرائية في هذا المسار، "فمثلا لو قامت الوزارة بتحديد نماذج للفلل والعمائر السكنية وطورت مخططاتها كاملة وقامت بإسناد التنفيذ إلى المطورين ليتم تقليل الفترة الزمنية ما بين قيام المطور بإعداد المخططات ومن ثم مراجعتها واعتمادها من الوزارة"،

وقد استرعى انتباهي أيضا نقطة "التسويق للمستفيدين" قبل البدء في عملية التطوير، الأمر الذي يعطي انطباعا بأن هناك نوعا من الرفاهية وليس هناك ضغط زمني للإنجاز. ولن أدخل هنا في تحليل هذه النقطة ووجاهتها سواء من حيث قوة حجة القائل بأهمية أخذ رأي "المستفيد" والتسويق له كحق أصيل في الاختيار وبين حجة القائل بأهمية الإسراع في التنفيذ والبناء، خاصة وأن هناك أكثر من 750 ألف أسرة على لائحة الانتظار، ولعلنا هنا نستعيد تجربة صندوق التنمية العقارية في توزيع شقق وفلل الإسكان العاجل كبديل عن القرض الذي حقق إقبالا هائلا من المقترضين.

الأمر المؤكد "أن من فوق الشجرة يرى ما لا يرى الجالس تحتها".. وبلا شك أن الوزارة لديها ما لديها سواء من حيث الأولويات أو التوجهات أو المشاكل والعقبات.

المسار الثاني

•يقوم المطور أو المقاول بإبداء رغبته في التأهيل.

•تقديم مخططات "فيلا" سكنية للاعتماد.

•اعتماد المخططات.

•البناء خلال فترة لا تتجاوز الـ"90 يوما" باستخدام أنظمة البناء الحديثة.

•التسويق على المستفيدين باستخدام "الفيلا" العينة التي قام "المطور" بتنفيذها على أرض الوزارة.

•بناء ما يستطيع المطور من تسويقه على المستفيدين.

وبناء على جميع هذه المعطيات، فإن الاستنتاج لواقع الوزارة والسوق كالتالي:

•دور الوزارة في المرحلة القادمة هو دور رقابي وتمويلي بحت.

•قيام القطاع الخاص ببناء المساكن الخاصة بالوزارة كما نصت عليه "الاستراتيجية الوطنية للإسكان".

•رغبة الوزارة في تكوين علاقة استراتيجية مع مطورين عقاريين محترفين، وتأهيل الراغبين في ذلك.

وسواء "شئنا أم أبينا" فقد أصبحت الوزارة لاعبا رئيسا في سوق العقار سواء بقدرتها المالية الضخمة أو بأخبارها الإعلامية أو باقتراحها القوانين العقارية، ولكن السؤال الكبير.. وماذا بعد؟

هل سيتم تقليل الفجوة الإسكانية؟

وهل سيزيد المعروض من الوحدات السكنية؟

وستستقر معدلات الإيجارات؟