قبل أكثر من نصف قرن كتب الروائي الفلسطيني غسان كنفاني روايته الأولى والأشهر على الإطلاق "رجال في الشمس"، وهي تحكي قصة ثلاثة فلسطينيين استعانوا بمهرب عديم الضمير لنقلهم إلى الكويت سرا داخل صهريج للمياه، على أن يبقوا داخل الصهريج لفترة لا تتجاوز بضع دقائق، فهو كما أقنعهم يمتلك علاقات طيبة بموظفي الجمارك على الحدود العراقية الكويتية، ولن يتأخر في الدخول.

وفي شهر "آب اللهاب" بدأت الحكاية وانتهت سريعا بمأساة أبكت كل من قرأها، عندما تأخرت الشاحنة في دخول الكويت، ومات الثلاثة داخل الصهريج، وعندما سئل السائق عن ذنبه، أجاب دون أدنى شعور بالذنب: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟

كثيرون تذكروا هذه الرواية عند سماعهم بخبر العثور على جثث أكثر من سبعين مهاجرا غير شرعي غالبيتهم من السوريين داخل شاحنة تركت على قارعة الطريق في النمسا، والأرجح أنهم ماتوا اختناقا بعد أن سرق المهربون أموالهم ولاذوا بالفرار، ويا للمفارقة فقد كان شهر آب على موعد مع هذه الكارثة الإنسانية كما في الرواية.

لكنني سأطرح سؤالا لا يختلف كثيرا عن سؤال كنفاني الذي ختم به روايته الحزينة: لماذا لم يدقوا أبوابنا؟! لماذا اتجه الآلاف من أبناء جلدتنا العرب إلى أوروبا، ليتسللوا عبر نوافذها سرا في جنح الظلام بعد أن أوصدت مداخلها الشرعية في وجوههم نهارا؟ لماذا كانت الكويت -وهي إشارة ترمز في الرواية لباقي دول الخليج- ملاذا ومقصدا للمظلوم والمنكوب منهم قبل خمسين عاما، لكنها اليوم آخر مكان يفكر في طرق بابه أو اللجوء إليه؟

قرأت العديد من الإجابات عن هذه الأسئلة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولمست العديد من الآراء المتباينة، فهناك من يؤيد فكرة استضافة اللاجئين لفترة معينة ويعتبرها واجبا على دول الخليج، وهناك من يرفضها قطعيا ويرى فيها تمهيدا لمشروع الوطن البديل، ومنهم من اكتفى بالرثاء لحالهم والدعاء لهم، وأكثر ما أحزنني موقف أولئك الذين حذروا وطالبوا حكومات المنطقة بعدم الوقوع في هذا "الفخ"!

كم هو مؤسف أن يصل البعض إلى هذه الدرجة من الأنانية، وهو يصف إغاثة لاجئ أو نازح يقصد ديارنا لطلب العون بكونه فخا، وكم هو محزن أن نلمس تعاطف الغرب مع إخوة لنا لا يتشاركون معهم دينا، ولا لغة ولا ثقافة، في حين نعدهم نحن وبالا سيحل علينا لو أننا أخذنا بزمام المبادرة!

قبل أيام أطلق ناشط يعيش في النرويج مبادرة لجمع تبرعات مالية بهدف مساعدة لاجئ شوهد يبيع الأقلام في شوارع بيروت وهو يحمل طفلته النائمة على كتفيه، كما عبر أكثر من عشرة آلاف مواطن أيسلندي يقطنون في النصف الآخر من الكرة الأرضية عن استعدادهم لاستقبال لاجئين سوريين داخل منازلهم.

في الوقت ذاته نظمت حملات أخرى تعبر عن الشكر والامتنان للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تلك المرأة الحديدية التي اختارت التصدي لأبناء جلدتها من اليمين المتطرف، وتحمل مسؤولية قرارها القاضي باستضافة مزيد من اللاجئين السوريين في ألمانيا، رغم ما يمكن أن يسببه هذا القرار من إحراج سياسي وانشقاقات داخل حزبها نفسه.

لن أطيل العزف على أوتار الأسى وجلد الذات، لكنها دعوة صادقة لحكوماتنا الخليجية ولأصحاب الأيادي البيضاء من أبنائنا، لنفكر في صيغة ما لاحتواء هؤلاء اللاجئين ومساعدتهم، بشكل يضمن سلامتهم ولا يضر بأمننا، أعرف بأننا قدمنا كثيرا، لكن الكارثة تتفاقم وبإمكاننا أن نقدم أكثر، وكما نقوم بدعم السوريين سياسيا للتخلص من مجرم كان سببا في قتلهم وتشريدهم، فلنسارع إلى مساندتهم إنسانيا وتخليصهم من واقع أثقل كاهلهم ودفع بهم إلى نفق المجهول، قبل فوات الأوان وقبل أن نشهد مجددا على مأساة الخزان.