قبل عدة أسابيع قدمنا قراءة استشرافية للانتخابات الأميركية، التي يتوقع فيها أن تحتدم مع بداية العام المقبل، لتبلغ أوجها صعودا حتى شهر نوفمبر، حيث يتحدد حينها الرئيس الفائز بدورة رئاسية لمدة أربع سنوات.
وقد اعتدنا أن نهتم بمسار هذه الانتخابات لما لتلك النتائج من تأثير في مستقبل العلاقات العربية- الأميركية، وبشكل خاص القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، التي تركزت معظم المبادرات السياسية لتسويتها على الدور الأميركي.
وكما أشرنا في أحاديث سابقة، فإن الاقتصاد كان ولا يزال هو البوصلة لمعرفة من سوف يصل إلى سدة الرئاسة. فالسياسة الخارجية الأميركية لا تهم المواطن العادي دافع الضرائب إلا بقدر تأثيرها في مصالحه، وفي هذا السياق تدخل الحروب أيضا التي شنتها أميركا خلال القرن المنصرم ومطالع هذا القرن. فالأميركيون لا يمانعون في إشعال حكوماتهم للحروب إلا إذا نتج عنها إضرار بمصالحهم الخاصة، وتسببت في خسائر في الأرواح والثروة والممتلكات.
أشرنا أيضا إلى أن الحزب الجمهوري يتبنى باستمرار سياسات اقتصادية أقرب إلى نظرية آدم سميث في كتابه ثروة الشعوب، حيث الحرية الاقتصادية المطلقة، التي تقترب أحيانا من الفوضى. أما الحزب الديموقراطي فيتبنى سياسة أقرب إلى الاقتصاد الموجّه، ودولة الرفاه، ويعتمد النظرية الكنزية القائمة على ضرورة دعم القوة الشرائية للطبقات الفقيرة، من خلال آليات عديدة تطرقنا إليها في عدة أحاديث.
ورغم أن الدستور الأميركي لا يمنع تكوين الأحزاب السياسية، ولا ترشُّح الأفراد بشكل مستقل للانتخابات البرلمانية والرئاسية، استمرت ممارسة الحياة الحزبية حكرا على الجمهوريين والديمقراطيين. اللافت في الأمر أن كلا الحزبين تبادلا الأدوار في عقيدتهما السياسية وسلوكهما الاجتماعي.
فالحزب الجمهوري الذي يعود له الفضل في تحرير الرقيق أثناء رئاسة (إبراهام لينكولن) تغير من ممثل لقيم الليبرالية الفتية، في مواجهة إقطاع الجنوب، إلى حزب يمثل المحافظين. والحزب الديمقراطي، وهو الأعرق من حيث التأسيس، والذي أسسه، (توماس جيفرسون) ارتبط اسمه بالدفاع عن الرق، وتركزت شعبيته آنذاك، بالولايات الجنوبية، حيث يوجد كبار المالكين للأراضي الزراعية.
ومع التطور التاريخي حدث انقلاب في موقع الحزبين. فأمسى الديمقراطيون تحت قيادة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ممثلين لليبرالية ومناصرين لتدخل الدولة في الاقتصاد، بينما نادى الجمهوريون بتدخل أقل من قبل الدولة في الشؤون الاقتصادية.
لكن الحزبين رغم قوتهما لا يحتكران بمفردهما مسؤولية تقرير سياسات الولايات المتحدة؛ فهناك إضافة إليهما قوى ضغط أخرى، من داخل النظام وخارجه لا يمكن لصانع القرار ألا يأخذ مصالحها بعين الاعتبار في رسم سياساته.
توجد قوتان رئيسيتان من خارج الحزبين، ومن خارج المؤسسات الثلاث الناظمة لسير الدولة؛ قوتا الضغط هذه إحداهما من الداخل وتدعى بمجموعات قوة الضغط العملية، وقوة ضغط من خارج النظام وتمثلها مجموعة المصالح.
الأولى تشمل كبار الموظفين، هذه الفئة لا تتأثر بمن يتسلم الحكم. فصلاحية الرئيس محدودة. والدستور يمنحه سلطات مقيدة. فليس بإمكانه تغيير الموظفين في كل هرم السلطة. بمعنى أن هذه المجموعة تعمل مستقلة عن الحزبين، وتشكل ضغطا مستمرا عليهما لتأمين مصالحها الخاصة.
فحين تتناقض مصالح هذه المجموعات مع مصالح الرئيس فهي لا تمانع في عمل كل ما من شأنه الضغط عليه، وإلى هذه المجموعات يعود فضل الكشف عن فضائح (ووتر جيت وإيران جيت) وقضية مونيكا في عهد الرئيس بل كلينتون، وفضيحة المرشح الديمقراطي جاري هارت الجنسية مع دانا رايس، وإليها أيضا يرجع الكشف عن فضيحة الفساد التي أودت بسبيروا أجنيو نائب الرئيس الأميركي نيكسون.
أما القوة الأخرى، فأصحاب المصالح، وتتشكل من الاتحادات بمختلف تفرعاتها. وهنا تتداخل السياسة والاقتصاد، فعلى سبيل المثال لا يمكن للرئيس الأميركي أن يمنع تصدير القمح لبلد ما يعد من وجهة النظر الأميركية معاديا للولايات المتحدة من غير تأمين أسواق أخرى؛ لتصدير المنتجات الأميركية من القمح.
يعتمد الديمقراطيون كثيرا على هذه الاتحادات، ويحظون بتأييدها، كون برامج الحزب الديمقراطي تصب باستمرار في خدمة الطبقة المتوسطة، بينما يعتمد الجمهوريون على المجموعات المحافظة، كالكنسية، والأيباك وتجمعات الكارتلات الكبرى، كالشركات النفطية، وملاك المناجم، وأصحاب المصارف. فالحزب الجمهوري يقف ضد الإجهاض والمثليين، ويدعم تماسك وحدة العائلة، ويدعو إلى تخفيض الضرائب، وجميعها تصب في خدمة المحافظين: كنيسة وكارتلات اقتصادية.
وهكذا كانت القسمة بين الحزبين، الطبقة المتوسطة: اتحادات نقابية، وأساتذة جامعات وفنانين وكتاب وأدباء ومبدعين، من حصة الديمقراطيين. وذلك هو ما يجعل هيمنة الديمقراطيين على الإعلام أكثر من نظرائهم من الجمهوريين، لكن غرماءهم يملكون المال.
يطغى الإعلام بجبروته أيضا ويسهم في تحديد الخيارات السياسية للشعب الأميركي، وهو الذي يحدد بوصلة من سيكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية، وفقا للمعادلة الاقتصادية التي أشرنا إليها في الحديث السابق معادلة الكساد والتضخم، وهي البوصلة الأكثر دقة في رسم سياسات الولايات المتحدة منذ عقود طويلة.
لكن التجربة التاريخية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، أكدت باستمرار أن بوصلة الاقتصاد هي الأكثر حضورا في قوتها وجبروتها، وأن لها الأثر الأكبر في تحديد من سيصل إلى سدة الرئاسة.